بقلم: لطفية الدليمي
كان مثالاً متداولاً في تراثنا العراقي أنّ الصيف أبُ الفقير، يكفيه شرّ المذلّة والمسكنة. لقمة الفقير في الصيف مكفولة ومقدورٌ على متطلباتها الشحيحة؛ فما هي إلا بضعُ حبّات من الطماطم، وأشيافٌ من الخيار المملّح، ورغيف ساخن خرج لتوّه من الفرن. حتى الشمس كانت رحيمة بالفقير؛ فلم تكن لتبخل عليه في عزّ الظهيرة بأفياء ظليلة تحت نخلة يستجيرُ بها طلباً لإغفاءة قيلولة قصيرة.
صيفُ العراق اليوم صار شرّاً على الفقير. حبّة الطماطم أو الخيار صارت لها تسعيرة وما عادت تُمنَحُ هبة من غير مقابل. ذهبت البركة وحلّت لعنة الجشع والتغالب. يستوي في هذا الفقراء ومتوسّطو الدخل. الاغنياء الطفيليون الذين يجيدون ابتلاع كل شيء -وليس الاكتاف السمينة فحسب- لهم قدراتهم الخاصة في كل زمان ومكان على تكييف الاوضاع لصالحهم وإعادة ترتيب الاوراق بما يخدم جيوبهم.
سيقول لنا قائل: لماذا هذا الانسحار بفكرة الفقير على طريقة بعض كُتّاب عربٍ سابقين شحنوا الفقر بفيض من الدراما الباكية؟
أقول: ليس كل الفقراء ممّن يستحقون التقريع لنقص في همّتهم ورغبتهم في العمل الجاد والمنتج. وقبل هذا: يجب أن يجد الفقير لقمة يومه؛ فإن لم يجدها فثمّة إختلال عميق في الموازين الاخلاقية قبل موازين السياسة والاقتصاد.
أكتبُ هذه السطور بعد أن شاهدتُ (محلّلاً) ستراتيجياً!! عراقياً يديرُ مركز أبحاث (كم تكاثرت هذه المراكز حتى غدت كالفطر!!) وهو يقول في لقاء تلفازي: لماذا ننكر البحبوحة الاقتصادية التي يعيشها العراقيون؟
أنظروا كيف صارت الازقة في الاحياء تضيق على المارة لكثرة السيارات الحديثة المركونة على جانبيها. هذا المحلل ينظر بعين عوراء إلى حياة العراقيين فيقتنصُ منها مشاهد تعزّزُ ما يشاء من رؤية (آيديولوجية) يريد تمريرها وجعلها قانوناً عاماً.
لستُ أسعى لكتابة أطروحة إقتصادية مضادة؛ لكني سأكتفي بإشارات عامة.
ما فائدة أن تكتض أزقة العراقيين بسيارات حديثة ومستشفياتهم خاوية يحتاج فيها المريض حتى إلى إبتياع القطن والمغذّي مع (الكانيولا) والمضاد الحيوي من صيدليات مخصوصة خارج المستشفى؟
وهل ستكون هذه السيارات تعويضاً مناسباً لإنهيار منظومة التعليم في العراق وخروج جامعاته من التصنيف العالمي؟
ما فائدة أن تمتلك سيارة حديثة وجسدك يزخّ عرقاً وأنت في قلب أتون مرجل عراقي تكاد درجة الحرارة فيه تساوي نصف درجة الغليان؟
إلتفّ الحبل على أعناق العراقيين المغلوبين على أمرهم، وصار أغلبهم مثالاً لمعادلة إجتماع الجهاز الحسي مع الجهاز الهضمي. تركب سيارتك ثم تذهب لأحد المولات لتتناول طعاماً بسيطاً يكلفك أضعاف قيمته الحقيقية.
بهجة خادعة وشعورٌ بالانتماء إلى العالم الرأسمالي وعبّ بعض ملذاته التي تأخرنا كثيراً عن رشفها حتى الثمالة. مطلوبٌ من العراقي أن يتعلّم الاقتراض ويظلّ طول حياته يسدّد الفواتير.
إقترضْ ولن يهم كثيراً ما تشتريه: موبايل، سيارة، بيت،،،،. حتى لو إمتلكت بعضاً من هذه السلع الرأسمالية فلا بأس من التغيير مع التغيّر المتسارع للموديلات. المهم أن تقترض وتسدّد فوائد هذه القروض. نسي المحلل الستراتيجي (وسينسى كثيراً بالطبع) أنّ القروض تتوجه إلى الموظفين فحسب ولا تشمل حتى المتقاعدين.
كيف يمكن للحكومة إذن تقليل التزاحم على طلب التعيين الحكومي وتنشيط القطاع الخاص وهي قد حصرت القروض بفئة موظفي الحكومة؟ أليس غير الموظفين مواطنين في العراق ولهم حقوق مشروعة فيه؟
يُقال في سياق عقلنة التعامل مع الواقع بعيداً عن الرؤى الشخصية أنّ الارقام لا تكذب. هذا صحيح في نطاق المنطق المجرّد البارد؛ لكنه ليس صحيحاً في نطاق الاقتصاد الذي يختص بمستوى وطبيعة حياة الافراد. لهذا يقال أنّ من العبث الارتكان إلى الارقام المجرّدة (مثل النسبة المئوية للنمو أو حجم الدخل السنوي) كدالة على الارتقاء بالحياة البشرية وتحقيق منسوب معقول من العدالة الاقتصادية.
لنفترضْ أنّ إعلاناً أصدرته الحكومة وقالت فيه أنّ العراق سيصدّرُ عشرة ملايين برميل من النفط في اليوم، وسترتفع النسبة المئوية للنمو السنوي فيه حتى تبلغ 20% مثلاً وهي نسبة أسطورية في المعايير الاقتصادية الحالية. هل سيفرح العراقيون؟ لا أظنهم سيفرحون لأنهم يعرفون أنّ زيادة المداخيل تعني زيادة مناسيب وأفانين الرشوة والفساد.
يعرفون أنّ أحوالهم لن تتحسن كثيراً، ربما في أحسن الاحوال ستزيد القروض الممنوحة للموظفين منهم. القروض صارت كلمة السر في الاقتصاد العراقي لأنها تريح الحكومة من عبء التفكير بالخدمات اللازمة التي في مقدمتها الصحة والتعليم. الخصخصة والقروض والفساد تحت لافتة الاستثمار الخادع هي عناوين الاقتصاد العراقي اليوم، وهي مظلة لغسيل أموال بمقياس كبير للغاية.
هذا المحلل الستراتيجي يحكي عن واقع حاله، وسيكون من المناسب أن نذكّره بأنّ الصورة يجب أن تُرى مجتمعة بدلاً من الاكتفاء بشظايا صغيرة منها تخدم أغراضاً خاصة به، وليتذكرْ دوماً أنّ صيفاً جحيمياً يكادُ يذيبُ الدهن تحت جلد الانسان لن تكون معه السيارة الحديثة سوى كومة حديد تستوي على عجلات أربع.
لن نذكّره بالطبع بحال الفقير الذي عزّت عليه لقمة الطماطم مع الخيار المملّح في صيف عراقي لاهب ما عاد أباً للفقراء ومتوسطي الحال معاً، وما عادت قيلولة الظهيرة تحت ظل نخلة متاحةً فيه بعد أن قُطِعَتْ رؤوس النخل فيه تحقيقاً لمآرب نفوس جشعة نخرت العراق كما تفعل الارضة في خشب يابس مركون في مغارة مهجورة.