بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) {مِثلي لا يُبايعُ مِثلهُ}.
ينصبُّ تركيز التَّربية الرساليَّة السماويَّة على أَمرَينِ في غايةِ الأَهميَّة؛
أ/ المنهجُ كما في قولهِ تعالى {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
ومنَ الآيةِ الكريمةِ يتَّضح لنا أَنَّ الوعي والبَصيرة من أَعمدةِ المنهجِ، وإِلَّا فسيكونُ الإِتِّباع ذَيليّاً والإِلتزام تقليداً أَعمى.
كذلكَ قَولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {لأَنْسُبَنَّ الإِسْلَامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي؛ الإِسْلَامُ هُوَ التَّسْلِيمُ والتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ والْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ والتَّصْدِيقُ هُوَ الإِقْرَارُ والإِقْرَارُ هُوَ الأَدَاءُ والأَدَاءُ هُوَ الْعَمَلُ}.
ب/ القُدوة والأُسوة كما في قولهِ تعالى {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ} وقولهُ تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
وقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه؛ أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه؛ أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ، فَوَاللَّه مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً ولَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً ولَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً ولَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً ولَا أَخَذْتُ مِنْه إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ ولَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ}.
والحُسينُ السِّبط (ع) هو المنهجُ وهو القُدوة، ولذلكَ فعندما يقولُ {مثلي} إِنَّما يعني مثلَ منهجهِ ومثلَ شخصهِ بما يُمثِّل من سيرةٍ وسلوكٍ ومُبتدأ ونهايةٍ، فكُلُّ شيءٍ فيهِ أُسوة والتي تشبَّعت بالمنهجِ، ولذلكَ لا يمكنُ الفصلُ بينَ الحُسين السِّبط (ع) المَنهج وبينهُ وبينَ الأُسوة قيدَ أَنملةٍ، فكانَ قولهُ {مثلي} مِصداقٌ صادِقٌ مُصدِّقٌ وأَمينٌ على من يلتزم بهِ ويهتدي بهَديهِ ويسيرُ على ما سارَ عليهِ الإِمام (ع) والذي بدَورهِ يسيرُ على نهجِ جدِّهِ رَسُولِ الله (ص) وأَبيهِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) كما ذكرَ ذلكَ في وصيَّتهِ التي تركها عندَ أَخيهِ مُحمَّد بن الحنفيَّة قبلَ أَن يُغادرَ المدينةَ إِلى مكَّة المُكرَّمة.
ولا يكونُ الرَّمزُ قُدوةً وأُسوةً إِلَّا باليقينِ والمعرفةِ والصَّبر {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} والتي تخلُق منهُ رمزيَّةً ثابتةً مُستقرَّةً غيرَ مهزُوزةٍ وغيرَ مُتأَثِّرة بالإِغراءات والظُّروف والتطوُّرات على مُستوى السُّلوك والإِلتزامات والمَنهج كما يصفُ ذلكَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {مَا كَذَبْتُ ولَا كُذِّبْتُ ولَا ضَلَلْتُ ولَا ضُلَّ بِي}.
ويصِفُ (ع) المائِز بينَ الشخصيَّتَينِ [الأُولى هي القُدوة والأُسوة الحقيقيَّة والثَّانية هي (الرَّمز) الذي يُضَلُّ بهِ النَّاس] بقولهِ {ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ (وأَنَا بِه زَعِيمٌ) إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَه الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْه مِنَ الْمَثُلَاتِ حَجَزَتْه التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ أَلَا وإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللَّه نَبِيَّه (ص).
والَّذِي بَعَثَه بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ولَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وأَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ، ولَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ولَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا.
واللَّه مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ولَا كَذَبْتُ كِذْبَةً ولَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وهَذَا الْيَوْمِ.
أَلَا وإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وخُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ.
أَلَا وإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وأُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ.
حَقٌّ وبَاطِلٌ ولِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ ولَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ فَلَرُبَّمَا ولَعَلَّ ولَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ!}.
أَمَّا القُدوة المُزيَّف فمُتناقِضٌ معَ نفسهِ، يأمرُ وينهي الآخرين وهو في منآىً عن ذلكَ كأَنَّهُ يخدعهُم، كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقَولهِ {لَا يُخْدَعُ اللَّه عَنْ جَنَّتِه ولَا تُنَالُ مَرْضَاتُه إِلَّا بِطَاعَتِه، لَعَنَ اللَّه الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَه والنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِه}.
تتقاذفهُ الظُّرُوف فتُغيِّرهُ سلطةً أَو مالاً أَو جاهاً.
ولعلَّ في قصَّةِ يوسف (ع) مثالٌ رائعٌ على ثباتِ الشَّخصيَّة القُدوة والأُسوة مهما تغيَّرت الظُّروف وقسَت التحدِّيات.
فعندما كانَ في السِّجنِ مظلوماً مُستضعفاً وصفهُ السُّجناء بقولهِم {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
وعندما كانَ في السُّلطةِ يمتلكُ ناصيةَ المالِ والإِقتصادِ في دولةِ الملكِ، وصفهُ إِخوتُهُ عندما توسَّلُوا إِليهِ أَن يأخُذَ أَحدهُم مكانَ أَخوهُم بقولهِم {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
هوَ مُحسِنٌ في كُلِّ الظُّرُوف، لا يتصنَّع الإِحسانَ ولا يتظاهرَ بهِ إِلى حينٍ!.
هذا هوَ الرَّمزُ المنهجُ الذي يُمكِنُ أَن يكونَ قُدوةً وأُسوةً، فالثَّباتُ على المناقبيَّاتِ في كُلِّ الظُّروفِ دليلُ صدقِ المنهجِ وصدقِ الرَّمزِ مع نفسهِ، ولذلكَ قالَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّه سُبْحَانَه إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ ، ولَا يُضَارِعُ ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}.
وإِنَّ من أَعظمِ صفاتِ القُدوةِ والأُسوةِ هو أَنَّهُ لا يتحدَّث عن حقوقهِ إِلَّا ويقرنَها بحقوقِ الآخرين، ولا يتحدَّث عن واجباتِ الآخرين قبلَ أَن يقرنَ حديثهِ عنها بالحديثِ عن واجباتهِ بأَزائهِم.
يَقُولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ؛ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا.
وأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ والنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ والْمَغِيبِ والإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ}.
أَمَّا القُدوة المُزيَّفة فيتحدَّث عن حقوقهِ ليلَ نهار ويقرنهُ بحديثٍ عن واجباتِ الآخرين صباحَ مساء!.
المُزيَّف يتصرَّف كسيِّدٍ والنَّاسٌ عبيدٌ لهُ!.
قالَ أَمويٌّ [إنَّما هذَا السَّوادُ بُستانٌ لِقُرَيشٍ! إِن شِئنا أَعطيَنا وإِن شِئنا مَنعْنا].
والقُدوَةُ الصَّالِحة يسبِقُ سلوكهُ أَمرهُ، يَقُولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللَّه مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا}.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول