- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
البكاء على الحسين / الجزء الأخير
بقلم : عبود مزهر الكرخي
الإقرار من غير المسلمين بواقعة الطف
أن الكثير من المستشرقين والكتاب الغربيين قد كتبوا عن ما حدث في واقعة عاشوراء وما جرى في عرصات كربلاء من مآسي وفظائع جرت على الإمام الحسين(عليه السلام)وأهل بيته والذين هم أهل بيت النبوة وأصحابه، وتم سرد الكثير من تلك الوقائع.
وقد ذكر الكاتب الفرنسي جوزيف في كتابه الإسلام والمسلمون في حديثه عن قلّة عدد الشيعة في العهود الإسلاميّة الأُولى، وبسبب عدم تسلّمهم الحكم، وتعرضهم لظلم الحكَّام وجورهم وتقتيلهم ونهب أموالهم، فقال: ((إنّ أحد أئمة الشيعة أوصاهم بالتقية لحفظهم من الأعداء، فأدّى ذلك إلى اقتدار الشيعة بشكل تدريجي، ولم يجد العدو ما يتذرّع به لقتلهم وسلب أموالهم، وأخذ الشيعة يعقدون المجالس في الخفاء ويبكون على الحسين عليه السلام. وأكبر عنصر يقف وراء تقدمهم هو إقامة مجالس العزاء على الحسين عليه السلام، وهذه العاطفة والتوجّه القلبي استحكمت في قلوب الشيعة وزادت بشكل تدريجي، فكان كُلّ شيعي في الواقع يدعو الآخرين إلى مذهبه دون التفات سائر المسلمين، بل لعل الشيعة أنفسهم لم يلتفتوا إلى فائدة هذا العمل، وكانوا يظنون أنهم إنّما يحصلون على الثواب الأُخروي )) (1).
ويقول المؤرخ الألماني ماربين في كتابه السياسة الإسلاميّة: ((إنّي أعتقد أنّ سرّ تطوّر الإسلام وتكامل المسلمين يكمن في شهادة الإمام الحسين عليه السلام وتلك الحوادث الأليمة)) (2).
3ـ تعبئة المسلمين
إن تأكيد الأئمة الأطهار(عليهم السلام) على عقد مجالس العزاء وإقامتها، هم قد جعلوا نهضة الحسين(عليه السلام)محور مهم في وحدة الشيعة والمسلمين عامة، بحيث يجتمع الناس في أيام محرم وشهادته ملايين الناس وبمختلف طوائفهم وأديانهم وأعراقهم وحتى مستوياتهم ليقيموا تلك المأتم على شهيد الطف وكربلاء(روحي له الفداء)وليلتفوا حول الراية السوداء الحسينية، ومن المعلوم أن كل أمة بحاجة إلى عنصر موحد يوحد تلك الحشود بغية ديمومتها والتوفيق لتلك الحشود المؤمنة.
وبالتأكيد أن افضل عامل موحد وعنصر لهذه الحشود من أتباع أهل البيت(عليهم السلام)هو بإقامة الشعائر الحسينية، لأنها تكون محور استقطاب لكل التجمعات المليونية حول محور معيّن بأقل ما يمكن، وولو أن أمة تمتع بهذه القوة من حشد تلك الطاقات المتفرقة وتوجيهها في مُدّة زمنية قياسية وشيء من الإعلام لاستطاعت القضاء على أيّة عقبة تعترض سبيل رقيّها وتقدّمها.، وليكون شعار من البحر إلى النهر في مسيرة الأربعين هو شعار يقضي على مظاهر الضعف والوهن التي تصيب الأمة الإسلامية والعربية.
" والحقّ أنّ الأئمة عليهم السلام إنّما حالوا ـ بحثّهم الناس على إقامة هذه المراسم ـ دون تشتّت تلك الطاقات، وعبّأوا الجموع المتفرقة وخلقوا منهم قوّة مقتدرة من خلال إيجاد الوحدة والانسجام، والحركة العفوية للجماهير أيام شهرَيْ محرم وصفر ـ ولا سيما عاشوراء التي تهزّ عروش الطغاة ـ إنّما تكشف النقاب عن سرّ تأكيدات الأئمّة في محورية النهضة الحسينية.
ولعلّنا لم نكن نقف على سرّ تأكيد الأئمة عليهم السلام على إقامة هذه المجالس لو لم نشهد تفجير تلك الطاقات الكامنة في هذه المجالس. قال المؤرخ الألماني ماربين: ((إنّ جهل بعض مؤرخينا جعلهم ينسبون الشيعة للجنون، وهذه مجرّد تُهمٍ، فإننا لم نشاهد بين الشعوب قوماً كالشيعة؛ حيث سلكوا بواسطة مجالس العزاء سياسة عقلائية أنتجت نهضات دينيّة مثمرة)) (3).
وقال المؤرخ نفسه: ((ليس هنالك ما يوازي مراسم العزاء الحسيني في خلق هذا الوعي السياسي لدى المسلمين)) (4)،(5).
ويلاحظ أن هناك ظاهرة مهمة وحيوية في مدى خشية الطغاة والأنظمة الديكتاتورية من قوة وتأثير المجالس الحسينية والتي تعتبر هذه القوة العظيمة هي تلقى معارضة من خصوم تلك المجالس لإقامة تلك المجالس وبذل كل المحاولات وسعيهم لإيقافها، حتى أقدموا على هدم قبر الإمام الحسين عليه السلام ومنعوا من زيارته.
وينطبق هذا الأمر على كل أعداء الدين " ولا يخفى الرعب الذي يعيشه أعداء الدين من إقامة هذه المجالس ـ اليوم ـ حتى بذلوا قُصارى جهدهم من خلال كيل التُّهم الشنيعة بواسطة عملائهم أحياناً، وأُخرى عن طريق إثارة الطواغيت السائرين في فلكهم، كما سعوا لإفراغ هذه المجالس من محتواها بغية القضاء على الشعائر الحسينية، وإنّنا لنلمس من خلال نظرة عابرة لتاريخ الإسلام بعد حادثة كربلاء كيف غدت هذه المجالس والشعارات الحسينية أُسوة لنهضات المجاهدين في سبيل الله ومواجهة الطواغيت والظلمة. ولعلّنا نتساءل هنا: لو انفتح جميع المسلمين على هذه المجالس كما ينبغي، وطهّروا أوساطهم ممّا عَلِقَ بها من فساد ودَنَسٍ ـ بوسيلة هذا العنصر القوي ـ فهل يتمكّن الظلمة من الهيمنة على البلاد الإسلاميّة؟ وهل باستطاعة الناهبين التطاول على ثروات البلدان الإسلاميّة لو فُعِّلت هذه المجالس ومبادئ النهضة الحسيّنية؟ " (6).
4ـ التَّزكية والتهذيب الاقتداء
تعتبر المجالس الحسينية هي مجالس لتزكية النفس وتنقية الروح وتهذيبها، وهي تمثل جانب روحاني وإسلامي سامي وبكل معنى الكلمة، فالشيعي وحتى المؤمن المسلم يقتدي بالأمام الحسين(عليه السلام)من خلال البكاء عليه وعلى مظلوميته في تلك المجالس، وهذا البكاء هو يخلق أرضية خصبة لدى تلك الجموع المؤمنة في محاكاة سيرته العلمية والعملية، ونلاحظ من تلك مجالس العزاء في إحداث تحول حقيقي وعزم على ترك الذنوب والمعاصي والالتزام بتعاليم ونهج الدين الإسلامي الحنيف، وهذا الترك للذنوب والمعاصي هو ترجمة لما ما نص عليه القرآن الكريم في قوله { إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } (7)، وهذا يشمل الضالين والذين في تلك المجالس قد تنبهوا فعادوا إلى أنفسهم وساروا على الدرب.
فهذه المجالس تُعلّم الإنسان دروس العزّة والكرامة والإيثار والتّضحية ودروس الأخلاق والورع والتقوى؛ وبالتالي فهي مصنع الأبطال وعشاق الحق والعدالة.
مضاف إلى ذلك ان المآتم الحسينية هي مدارس دينية يتعرف عليها المؤمنين على الأحكام الدينية والعلوم والمعارف والتاريخ الإسلامي الصحيح وحتى المعارف العلمية ومختلف الموضوعات، لتصبح من أهم وأنجح مراكز التزكية والتهذيب والتربية.
قال المؤرخ الألماني ماربين بهذا الشأن: ((إنّ المسلمين لن يعيشوا الذلة ما دامت لديهم هذه المجالس التي يتعلّمون فيها دروس الشجاعة والتضحية، ومن خلال هذا الطريق يتعلّم الشيعة درس الشجاعة والبطولة)) (8).
ولهذا فتح أئمتنا الأطهار(عليهم السلام)هذا الباب ومن أوسع أبوابه وهو دعوة للتربية والتعليم في جامعة الحسين الفريدة من نوعها.
وقال المرحوم الفيض الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء ـ في توضيحه لحديث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ((عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة)) ـ: ((إنّ ذكر الصالحين وسجاياهم الأخلاقية تجعل الآخرين يتأسّون بهم فيستحقون نزول رحمة الله)) (9).
وروى ثقة الإسلام الكُليني وشيخ الطائفة الطوسي: أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: ((قال لي أبي: يا جعفر، أوقف من مالي كذا وكذا للنوادب تندبني عشر سنين بمِنى أيام مِنى)) (10).
ولصاحب الجواهر في كتاب الطهارة كلام في بيان حكمة هذه الوصية وفلسفتها؛ إذ قال: ((وقد يُستفاد منه استحباب ذلك، إذا كان المندوب ذا صفاتٍ تستحقّ النّشر ليُتقدى بها)) (11).
ومن هناك كانت مجالس العزاء والبكاء على الإمام الحسين(عليه السلام)هي مجالس تخليد لذكر الحسين وإلى واقعة الطف وديمومة النهضة الحسينية وبقاءها، وبالتالي خلودها تلك النهضة والرسالة المحمدية الى النهج الصحيح ليكون وجود ديننا الحنيف محمدي وبقاؤه حسيني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ شرف الدين، عبد الحسين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص92.
2 ـ المصدر السابق: ص109.
3 ـ شرف الدين، عبد الحسين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص109.
4 ـ نقلاً عن السياسة الحسينية للشيخ كاشف الغطاء: ص44. الطريف أنّه نُشِر مؤخراً كتاب في أمريكا يحمل عنوان خطة لعزل المذاهب الدينيّة تضمّن حواراً مفصّلاً مع الدكتور مايكل برانت أحد المساعدين السابقين في وكالة المخابرات المركزيّة الأمريكية، أشار فيه إلى خُطّة تستهدف الشيعة ومذهبهم، كما ورد في هذا الحوار إشارة إلى الجلسات السرّية لزعماء الوكالة ورئيس جهاز الاستخبارات البريطاني، فقال: «لقد توصّلنا إلى أنّ انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانية لا يُعزى إلى السياسات الخاطئة التي اتخذها الشاه حيال الثورة، بل هنالك عوامل أُخرى مثل التأثر بثقافة الشهادة التي ظهرت قُبيل ألف وأربعمائة سنة من قِبَل سبط نبي الإسلام الإمام الحسين، وتتسع وتترسخ هذه الثقافة سنويّاً أيّام محرم من خلال إقامة مراسم العزاء». ثم أضاف: «عزمنا على تحريف هذه الثقافة وعقائد الشيعة من خلال توفير الدعم المالي لبعض الخطباء والرواديد والقائمين على رعاية هذه المراسم» صحيفة الجمهورية الإسلاميّة: العدد 7203 5/3/83هـ. ش، المصادف 26/7/2004، ص16 مع الاختصار.
5 ـ راجع مقال بعنوان الكاتب: د.الشيخ مهدي رستم نجاد. مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثامن. مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية.
6 ـ نفس المصدر.
7 ـ [ طه : 82 ].
8 ـ عبد الحسين شرف الدين، فلسفة الشهادة والعزاء: ص109.
9 ـ الفيض الكاشاني، محمد بن المرتضى، المحجة البيضاء: ج4، ص17.
10 ـ الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي: ج5، ص117. الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام: ج6، ص358.
11 ـ الجواهري، محمد حسن، جواهر الكلام: ج4، ص366.