بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) لعديِّ بنِ حاتمِ الطَّائي {إِنَّا قد بايَعنا وعاهَدنا ولا سبيلَ لنقضِ بَيعتِنا}.
الإِلتزامُ بالعهدِ والوعدِ الذي يقطعهُ المرءُ على نفسهِ، واجبٌ شرعيٌّ وأَخلاقيٌّ وقِيميٌّ ووطنيٌّ وبِكُلِّ المقاييس الإِنسانيَّة حسبَ إِيمانِ المرءِ ومُعتقداتهِ.
يقولُ تعالى {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} و {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.
وهوَ [الإِلتزامُ بالعهدِ] تعبيرٌ واضحٌ وصريحٌ ومُباشرٌ عن شخصيَّةِ الإِنسان، وما إِذا كانَ يمكنُ الإِعتمادَ عليهِ فعندما يعِدُ يفي؟! أَو أَنَّهُ شخصيَّةٌ مهزوزةٌ مُتقلِّب المِزاج يعِدُ في الصَّباحِ وينقلبُ في المساءِ ويتعهَّدُ في اللَّيلِ ويُغيِّرُ في اليَوم الثَّاني وهكذا! وما إِذا كانَ يتحمَّل الإِلتزام فيصبِرَ على الإِغراءات التي تشجِّعهُ على نكثِ العهدِ أَم لا؟! {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}.
تعالوا نقرأَ النصِّ التَّالي ففيهِ عِبرةٌ عظيمةٌ عن عاقبةِ ناقضِ العهدِ، بعدَ أَن يصِفُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) حالَ مَن ينقُضَ العهدِ!.
قَالُوا؛ أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ فَاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ والْحُسَيْنَ (ع) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) فَكَلَّمَاه فِيه فَخَلَّى سَبِيلَه، فَقَالَا لَه؛ يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! قَالَ (ع) {أَوَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ؟ لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِه! إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّه لَغَدَرَ بِسَبَّتِه.
أَمَا إِنَّ لَه إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَه وهُوَ أَبُو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ وسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْه ومِنْ وَلَدِه يَوْماً أَحْمَرَ!}.
ولذلكَ شدَّد القرآن الكريم على الإِلتزام بالعهودِ وجعلهُ بمصافِّ الإِيمانِ بالله تعالى وأَنَّهُ أَوَّل ما يُحاسب عليهِ المرءُ يومَ المحشرِ، خاصَّةً إِذا كانَ العهدُ والوعدُ مرتبطٌ بمصالحِ النَّاسِ وحقوقهِم.
يقولُ تعالى {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالنقضُ فسادٌ بمعناهُ ومداهُ الأَوسع.
ويقولُ تعالى {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ۖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} وإِنَّ ناقضَ العهدِ فاسقٌ.
ويقولُ تعالى {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ ۚ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا} و {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} فالعهدُ إِلتزامٌ مُتبادَل.
ولذلكَ فلقد رفضَ رسولُ الله (ص) نقضَ العهدِ معَ قُريشٍ عندما إِتَّفقَ الطَّرفان [المسلمُونَ والكُفَّار قبلَ فتحِ مكَّةَ] على تسليمِ مَن يأتي إِليهِما فارّاً إِلى الطَّرفِ الآخر، فسلَّمهُم مُسلماً فرَّ من قُريش!.
وكذلكَ رفضَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) نقضَ العهدِ معَ طاغيةِ الشَّام بعدَ التَّحكيمِ.
وهكذا الحُسينِ السِّبطِ (ع) الذي رفضَ نقضَ وثيقةِ الصُّلحِ بينَ الحسَن السِّبط (ع) وطاغيةِ الشَّام بعدَ استشهادِ أَخيهِ (ع) ريحانةَ رسولِ الله (ص).
وكانَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يوصي عُمَّالهُ دائماً باحترامِ العهودِ وعدمِ نقضِها لأَسبابٍ تافهةٍ، فلقد كتبَ لأَحدهِم يقُولُ {أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ دَهَاقِينَ أَهْلِ بَلَدِكَ شَكَوْا مِنْكَ غِلْظَةً وقَسْوَةً واحْتِقَاراً وجَفْوَةً، ونَظَرْتُ فَلَمْ أَرَهُمْ أَهْلًا لأَنْ يُدْنَوْا لِشِرْكِهِمْ ولَا أَنْ يُقْصَوْا ويُجْفَوْا لِعَهْدِهِمْ، فَالْبَسْ لَهُمْ جِلْبَاباً مِنَ اللِّينِ تَشُوبُه بِطَرَفٍ مِنَ الشِّدَّةِ ودَاوِلْ لَهُمْ بَيْنَ الْقَسْوَةِ والرَّأْفَةِ وامْزُجْ لَهُمْ بَيْنَ التَّقْرِيبِ والإِدْنَاءِ والإِبْعَادِ والإِقْصَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّه}.
وإِنَّ مِن أَسوء صفاتِ المرءِ هو أَن يعدَ فلا يلتزِم ويتعهَّد فينقلبَ على تعهُّدهِ، فذلكَ هوَ النِّفاقُ بعينهِ {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يقُولُ رسولُ الله (ص) محدِّداً صفات المُنافق {آيةُ المُنافق ثَلاث؛ إِذا حدَّثَ كذَّب، وإِذا عاهدَ أَخلف، وإِذا خاصمَ فجَر}.
وأَخطرُ المُنافقينَ همُ الذين يعِدونَ بأَن ينقلُوا الرِّواية والمشاهِد والتَّاريخ الذين صنعُوهُ بأَنفسهِم بأَمانةٍ وصدقٍ من دونِ كَذبٍ وتزويرٍ وتدليسٍ وتضليلٍ، إِذا بهِم يغيِّرونَ ويبدِّلونَ فيبيعُونَ كُلَّ شيءٍ، دينهُم وضميرهُم وأَخلاقهُم وآخرتهُم بدُنيا غيرهِم.
يقولُ تعالى {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} و {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} و {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وهؤُلاء همُ الذين ابتُليت بهِمُ الأُمَّة منذُ صدرِ الرِّسالة وإِلى الآن، وكأَنَّ طاغيةَ الشَّامِ قد علَّمهُم ورعاهُم وأَغدقَ عليهِم وقرَّبهُم ليتعكَّزَ عليهِم في تزويرِ الحديثِ وقلبِ الصُّورة الحقيقيَّة فيما يخصُّ الدِّين والعقيدة والقرآن الكريم والسنَّة النبويَّة.
ولقد وصفهُم أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ {رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ ولَا يَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (ص) مُتَعَمِّداً، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّه مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْه ولَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَه ولَكِنَّهُمْ قَالُوا؛ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّه (ص) رَآه وسَمِعَ مِنْه ولَقِفَ عَنْه، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِه وقَدْ أَخْبَرَكَ اللَّه عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ ووَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِه لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَه فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ والدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ والْبُهْتَانِ فَوَلَّوْهُمُ الأَعْمَالَ وجَعَلُوهُمْ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ والدُّنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّه}.
إَنَّ الشخصيَّة الحسينيَّة لا تعِدُ بشيءٍ قبلَ أَن تتأَكَّد من قدرتِها على الإِلتزام، ولو تعهَّدت فلن تنكُثَ أَو تنقُضَ مهما كانَ الثَّمن، لأَنَّ العهدَ ليسَ كلمةٌ هو قائِلُها كما أَنَّ الوعدَ ليسَ شعارٌ إِنتخابيٌّ لكسبِ الأَصواتِ بالكذبِ والدَّجلِ والتَّضليلِ، ثُمَّ رمي أَصحابِها في سلَّةِ المُهمَلاتِ، أَبداً، بل إِنَّهُ مسؤُوليَّةٌ خطيرةٌ.
إِنَّ الوفاءَ والنَّكثَ للمرءِ وعليهِ فهو أَوَّلُ المُستفيدينَ أَو المُتضرِّرين {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
إِنَّ العهُودَ هي أَحد أَهم الإِختبارات التي يمكنُ أَن تعتمدَها لتقييمِ شخصيَّةِ المسؤُول، وفيما إِذا كانَ جديراً بالثِّقةِ يُعتمدُ عليهِ أَم لا؟! جديرٌ بأَن تصوِّتَ لهُ مرةً أُخرى فتُجدِّد ثقتكَ بهِ أَم لا؟! فإِذا نكثَ مرَّةً ثمَّ كرَّرها فلا ينبغي لكَ التَّبريرَ لهُ فتُعيدَ منحهِ الثِّقة مُجدَّداً لأَنَّك بهذهِ الحالة تضحك على نفسِكَ وهو يضحكُ على ذقنِكَ، ولا يفعلُ ذلكَ بنفسهِ إِلَّا خفيفَ العقلِ وتافِهَ ورخيصَ السِّعرِ!.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول