عادل عبد المهدي، رئيس وزراء العراق بين تشرين الأول 2018 وأيار 2020، برز كشخصية مهمة إبان واحدة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ البلاد الحديث.
بين الخوض في خضم إقامة علاقات متوازنة مع كل من واشنطن وطهران، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، اضطر إلى الاستقالة من منصبه بعد اندلاع احتجاجات شعبية في تشرين الأول 2019، واجهتها الدولة بقمع عنيف.
وكشف عبد المهدي في مقابلة مع The Cradle وتابعتها وكالة نون الخبرية، عن تفاصيل تلك الأيام المروعة، وعن المصالح الأجنبية –خصوصاً الأميركية والبريطانية– التي لعبت دوراً في إثارة الفوضى والإرهاب والطائفية والتبعية الاقتصادية التي لا تزال تعصف بالعراق.
يتحدث عبد المهدي عن دور التحالف الغربي في محاربة تنظيم داعش الارهابي، مشيراً إلى أن التحالف كان يهدف فقط إلى تحقيق توازن بين هذه الجماعة الإرهابية وبين من يقاتلون ضدها تحت ستار "مكافحة الإرهاب"، حتى لا يكون هناك غالب واضح. ويكشف عن محاولات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على عكس سابقاتها، لخلق واقع جديد في العراق وزعزعة استقراره بتحويله إلى قاعدة ضد إيران وتشديد الخناق على بغداد.
يعدَّد عبد المهدي سلسلة مواقف وضعته في مواجهة الولايات المتحدة.
لم يكن سبب سقوطه "ثورة تشرين" في 2019 التي دفعته إلى الاستقالة، بل مواقفه التي لم ترض الأميركيين، برفض العداء لإيران ولقوات الحشد الشعبي العراقية التي ألحقت الهزيمة بـ"داعش"، حسب قوله.
عبد المهدي، وهو خبير اقتصادي في الأساس، يناقش أيضًا مستقبل العراق وبلاد الشام، والانعكاسات المتوقعة للمصالحة الإيرانية السعودية على العراق.
المقابلة:
كيف ترون مستقبل العراق؟ هل هناك حاجة إلى إعادة النظر في الدستور وإلغاء الطائفية، وألم يحن الوقت لخلع البزة العسكرية وبناء دولة مدنية حديثة؟
– أنا ضد ان نتصور في أذهاننا نموذجاً ونحاول جرّ الواقع اليه. بالتأكيد لدينا طموحات وأهداف، ولكن يجب ان نوائمها مع الواقع. هناك، في تقاليدنا، كلمات نمقتها كالكانتونات والفيدرالية والكونفيدرالية وغيرها. النظام السويسري، مثلاً، كونفيدرالي قائم على الكانتونات، وقد شهد هذا البلد صراعات شبيهة بما عشناه. الولايات المتحدة شهدت أيضاً صراعات بين السود والبيض وحروباً أهلية قبل أن ترسو على نظام فيدرالي. لا أقول إن هذه الأنظمة حلّت كل المشاكل بشكل جذري، لكنها دخلت مساراً من التوليف بين مكوّناتها بما جعلها قادرة على التعايش مع بعضها بعضاً، حيث يحصل كل مكوّن على حقوقه. الحل ليس في نماذج نظرية قرأناها في كليات العلوم السياسية، بل في تجارب موجودة أمامنا على امتداد العالم.
يسوّق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لمشرق جديد، العراق جزء منه. كيف تنظرون إلى هذه الفكرة؟
– نحن مع التوجه شرقاً منذ زمن طويل. زيارتي إلى الصين في أيلول عام 2019 كانت من ضمن هذا التوجه. قبل ذلك، عندما كنت وزيراً للنفط عام 2015، في حكومة الأخ حيدر العبادي، وضعنا أسس ما يسمى اليوم اتفاق الاطار الائتماني بين العراق والصين، ضمن خطتنا لإعادة إعمار العراق. التوجه شرقاً ليس خياراً نظرياً، وبات مطروحاً أمام كل دول العالم في ظل الضعف الغربي والثقل الآسيوي المتزايد. سابقاً، 70 في المئة من النفط العراقي كان يُصدّر إلى الدول الغربية. اليوم، أكثر من ذلك صارت وجهته شرقاً. الصين وحدها تستورد بين 700 ألف ومليون برميل يومياً.
نشهد صعوداً آسيوياً، وهناك اليوم في القارة دول أقطاب تنافس، بل وتتقدّم أحياناً، الدولة الأولى في العالم، عسكرياً واقتصادياً وفنياً وعلمياً وقيمياً واجتماعياً. لذلك، فإن التوجه شرقاً مسار طبيعي وليس قراراً سياسياً لطرف من الأطراف. نحن أمام تحوّل تاريخي كبير، ولسنا أمام خيارات سياسية قد تنجح أو تفشل. وهذا المسار يمتلك زخماً وأدوات ستمكّنه من أن يفرض نفسه على العالم.
كيف تقيم مرحلة بريمر، وهل يحصد العراق اليوم ما زرعه بريمر؟
– مثّلت هذه المرحلة قمة الغطرسة الاميركية. قبلها، في مرحلة زلماي خليل زاده، تم التوصل مع أطراف المعارضة العراقية إلى اتفاق على تأليف حكومة انتقالية، قبل أن يوقف بريمر هذه العملية. في اللقاء الأول الذي عقده مع كل القادة والمسؤولين العراقيين لعرض تصور الإدارة الأميركية للادارة المدنية، وكان يرافقه مسؤول جهاز الاستخبارات البريطاني (MI 6) جون سوايرز، خاطب الجميع قائلاً: لا نحتاجكم إلا كمستشارين. نحن نؤسس كل شيء وسنبني الدولة والمجتمع، ودوركم أن تساعدونا. كل الحاضرين، البارزاني والطالباني والشلبي وعلاوي ونحن، اعتبروا ذلك غير مقبول وأن الأمر احتلال. لكنه فرض رأيه بالقوة، وبدأ اصدار تشريعات وقوانين سميت قرارات بريمر. 111 تشريعاً لا يزال تأثيرها قائماً على البنك المركزي والوزارات وغيرها. كان بريمر مغروراً جداً واعتقد أنه قادر على اخضاع البلاد، وأراد أن يطبّق نظام الانتخابات النخبوية كما في الولايات المتحدة، وليس انتخابات عامة لكل الشعب العراقي. لكن آية الله السيستاني رفض ذلك وأصرّ على ان تترك كتابة الدستور للعراقيين عبر جمعية وطنية منتخبة.
لماذا اندلعت المعارك الطائفية في العراق، وهل للولايات المتحدة يد في هذه النزاعات؟
– يقيناً، لها يد في ذلك. تفضّل الولايات المتحدة إضعاف الجميع للتحكم بالبلد. بالحديث عن الحرب الطائفية يجب العودة إلى من أثار النعرات الطائفية في البداية. تنظيم القاعدة بدأ الذبح على الهوية في افغانستان قبل العراق. أول عملية اغتيال كبيرة استهدفت السيد محمد باقر الحكيم في 2003، وهذا له مدلولاته. الحرب الطائفية لم تندلع لأنه بات للشيعة وزن أكبر في الدولة، بل لأن هناك فريقاً معادياً للوضع الجديد حظي بدعم من القوى الخارجية، الأميركية والبريطانية وغيرها. هذا الفريق بدأ إنشاء مجموعات مسلحة عشائرية وغير عشائرية بدأت بالتدرب في المناطق الغربية. في المقابل، كان الأميركي يمنع تشكيل لجان شعبية بحجة أنها ستتحول الى ميليشيات. تطور الأمر عام 2014 إلى ظهور "داعش" التي هددت العاصمة، فكانت فتوى الجهاد الكفائي وتشكيل الحشد الشعبي.
هل لديكم معطيات عن الدور الذي لعبه الأميركيون في دعم ارهاب القاعدة في العراق؟
– لن أعطي جواباً تبسيطياً. قبل 2011، خاض التحالف الدولي، ومن ضمنه الأميركيون، معارك ضد الإرهاب. لكن القضاء على هذا الإرهاب نهائياً لم يكن على أجندته. هذا يحصل اليوم في سوريا مثلاً، حيث نرى الأميركيين يستهدفون أحياناً قادة في القاعدة وداعش، ولكن من دون أي جهد للقضاء على هذه التنظيمات نهائياً، وهم بذلك يقيمون نوعا من التوازن بين الإرهابيين وأعدائهم. هذا أمر واضح في سوريا وفي أمكنة أخرى.
ما هو دور الحشد الشعبي في تحرير العراق من الإرهاب؟
– لعب الحشد دوراً مهماً جداً. منذ 2003، اقترحنا تأسيس لجان شعبية لأنه لم يكن لدينا الوقت الكافي لتشكيل جيش وقوات شرطة لحماية البلد. صحيح أن بريمر حلّ الجيش، لكن أُعيد تشكيله من المنتسبين أنفسهم، وبينهم أصحاب الرتب العالية أنفسهم أيضاً. كان في تلك المرحلة جيشاً غير عقائدي شُكّل وفق مفاهيم نظام آخر، لذلك اقترحنا في البداية تشكيل لجان شعبية. لكننا اختلفنا في ما بيننا. من كانوا يمتلكون مجموعات مسلحة تحمّسوا للفكرة فيما عارضها من لم يمتلكوا السلاح لأنهم رأوا أن ذلك يعطي الفريق الأول ميزة عليهم. الأميركيون أيضاً كانوا يخشون الأمر، لذلك شُنت حملة على اللجان الشعبية ما حال دون تنفيذ الفكرة. عندما احتلت داعش الموصل بمئات من المقاتلين، كانت هناك خمس فرق عسكرية، ولم نكن نعاني نقصاً في السلاح أو العتاد، بل كنا نواجه مشكلة في العقيدة القتالية للجيش، ونقصاً في الاستعداد للتضحية.
ألم يكن الفساد هو سبب سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش"؟
– يمكنك أن تضيف هذا إلى الأسباب أيضاً. كل هذا كان موجوداً: الفساد، نقص العقيدة القتالية، رغبة البعض في التعاون مع داعش وغير ذلك. عندما دخلت القوات الأميركية إلى الفلوجة في 2004، وتم الاتفاق على نشر لواء من الجيش في المدينة، تبيّن أن اللواء بكامله كان بعثياً، من قائده إلى أدنى الرتب، ورفع في المدينة علم نظام صدام حسين. الشعور بعدم وجود مؤسسة عسكرية تحمي الشعب وتنامي داعش ووصولها إلى حد تهديد بغداد ونشرها الخوف بين الناس، كلها قادت إلى فتوى المرجع الاعلى وإلى التعبئة العامة. أمن العراق اليوم يحفظه الحشد والقوى –سواء العشائرية أو غير العشائرية– التي لا مصلحة لها بالتناغم مع الارهاب، والأصلب والأقوى في محاربته. وفكرة الحشد موجودة اليوم في كل أنحاء العراق. كردستان، مثلاً، بقيت آمنة لأن فيها قوات بيشمركة أمنت حماية لمناطقها، لذلك لم تشهد ما شهدته بقية أنحاء العراق رغم أن كردستان كانت في دائرة الاستهداف من تنظيم القاعدة.
ما هو دور الشهيد اللواء قاسم سليماني في مواجهة الارهاب في العراق؟
– كان دوره كبيراً جداً في صناعة النصر. الشهيد سليماني كان يمتلك صفات عدة. كان استراتيجياً من الطراز الأول وقادراً فوراً على وضع صورة استراتيجية شاملة لمسرح العمليات وتعيين نقاط الضعف والقوة لدى كل طرف. كان أيضاً رجلاً توليفياً قادراً على نسج الصداقات مع الجميع، مع الكردي والشيعي والسني… وبالتالي قادرا على تحقيق التعبئة المطلوبة. كذلك كان يميز بين المقاومة الشعبية والمسارات التي تتبعها الدولة ويتفهّم أن لكل منهما لوجستيات وطرقاً مختلفة. إلى ذلك، كان ممثلاً للجمهورية الاسلامية في إيران، الدولة الكبيرة وصاحبة القدرات الهائلة، لذلك كان باستطاعته، خلال ساعات قليلة، أن يوفّر حاجات المعركة من دون المرور بالمعاملات الروتينية. في ساعات، كان قادراً على إقامة جسر جوي لإمداد العراق بالأسلحة، وهو ما كان يستغرق مع أطراف أخرى شهوراً. في الميدان، كان صاحب القرار الأول، وكان دائماً على رأس المقاتلين ما كان يُلهم قادة المعركة ومقاتليهم، ويعطي أيضاً قطعات الجيش والشرطة معنويات لو كانت تمتلكها لما كانت سقطت الموصل أساساً.
لماذا اغتال الأميركيون قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس؟
– أرى في هذا القرار تعبيراً عن يأس وضعف وعجز، وهروب من أزمة أميركا في العراق. كان قراراً أحمق، لأن اغتيال قائد كبير كالشهيد سليماني هو بالتأكيد خسارة كبيرة، لكنه في الوقت نفسه يولد حركة أوسع ويزيد من عزيمة . كما كان جريمة حتى وفق القوانين الأميركية.
ما هي مصالح كل من طهران وواشنطن في العراق؟
العلاقات مع إيران تاريخية وهناك روابط بين البلدين على كل الصعد. ملايين العراقيين عاشوا في ايران، وفي المقابل أقام ملايين الايرانيين في العراق. هنا لا أتكلم عن الروابط الشيعية، الأمر نفسه ينطبق على العلاقة بين أكراد ايران وأكراد العراق، وعلى العلاقة بين الفرق السنية الصوفية في البلدين. إذاً، هي علاقات تاريخية، رغم ما يشوبها من خلافات أحياناً كما يحدث بين أي بلدين جارين. وخلال الحرب العراقية – الايرانية تعرضت الجمهورية الاسلامية لحملة شيطنة ضخمة، إلى أن جاء الاحتلال الأميركي للعراق، فاعتقد البعض أن الرخاء والتطور سيأتي من علاقاتنا مع الدولة الأقوى في العالم.
إيران جار تاريخي، كما هي الحال مع تركيا والدول العربية، ويجب النظر الى المشتركات ومعالجة الخلافات من هذه الزاوية التاريخية.
هل تعرضت حكومتك لضغوط من واشنطن وطهران؟
– من جهة واشنطن أكيد. منذ زيارة ترامب لقاعدة عين الأسد ووقوفنا مع الحشد الشعبي وعدم دخولنا في صراعات مع فصائل شيعية وغير شيعية، كانت الضغوط الأميركية تزداد من كل الاتجاهات.
كنت دائماً أقول للمسؤول الأميركي ديفيد شينكر: علاقاتنا مع إيران عمرها 5000 سنة وإيران دولة جارة، وفي الوقت نفسه نريد أن يكون الأميركيون الذين يبعدون عنا 5000 كيلومتر أصدقاء لنا. ولكن، لا يمكن أن نتخلى عن 5000 سنة من العلاقات. حتى في العلاقات اليومية، يدخل ملايين الإيرانيين إلى العراق ومثلهم من العراق إلى إيران، فيما نحتاج إلى تأشيرة دخول للسفر الى الولايات المتحدة. أميركا جاءت الى المنطقة من أجل مصالحها، وإيران جزء من المنطقة وتدافع عن مصالحها، ولا أقول أنها تكرّس نفسها للدفاع عن مصالح العراق، شأنها شأن كل دول المنطقة. لا يمكن أن نقارن علاقاتنا مع الدول الجارة، كالسعودية أو تركيا او إيران، بعلاقاتنا مع دول بعيدة. هذه علاقة وجودية عمرها قرون طويلة وفيها الكثير من المشتركات، في مقابل علاقات مع دولة جاءت من البعيد دفاعاً عن اسرائيل وللهيمنة على النفط وغير ذلك. لا استطيع أن أساوي بين أمرين غير متساويين. يجب أن ندرس علاقاتنا مع كل طرف وفق خصائصه وصفاته وتاريخه ووزنه وما يريده، لنتمكن من إيجاد نقطة توازن في العلاقات مع كل الأطراف.
المصالحة الايرانية السعودية
ما هي الانعكاسات المتوقّعة على العراق بعد المصالحة الإيرانية السعودية؟
بالتأكيد هناك انعكاسات كثيرة متوقعة. أولاً تخفيف حالة التوتّر والمشبوهية والاتهامات المتبادلة سريعاً.
ثانياً: نحن نعلم أنّه سواء في المملكة السعودية أو في العراق أو في إيران، هناك امتدادات إقليمية، يعني شرائح اجتماعية في داخل كل بلد لها امتداد وتعاطف وتاريخ طويل ومصاهرات ومصالح اقتصادية. هذه كلها يمكن أن تشهد نوعاً من الانفراج والتهدئة. وبالتالي تؤثر كثيراً على الوضع السياسي.
إضافة إلى ذلك، سواء السعودية أو في إيران، كلاهما لهما مصالح كبيرة في الكثير من دول الجوار، ولعلّهما أكبر بلدين لديهما مصالح في مجموع الدول المحيطة، سواء في مصر، في باكستان ، في لبنان وسوريا والخليج وفي أفريقيا، وأنّ حال التهدئة من شأنها أن تُضفي نوع من التخفيف ومدّ اليد.
وهناك مصالح كثيرة حتى بين السعودية وإيران. اليوم السوق في السعودية أو السوق في إيران، مهمّة لكل الطرفين. وأعتقد مع ضعف اليد الأجنبية وضعف اليد الأميركية وإسرائيل، لا خيار أمام إيران والسعودية غير التعايش والتساكن والتصالح ومد الجسور والتعاون. لا شك هناك انتكاسات وإحباطات ستحصل. إذ إنّ هناك تاريخ طويل من المعاداة والعمل المضاد الواحد ضد الآخر، لذلك من المتوقع أن تحصل إحباطات وانتكاسات، لكن أعتقد أنّ المجرى العام للأوضاع الإقليمية والدولية والأوضاع في المنطقة، يدفع باتجاه المصالحة والتقارب أكثر فأكثر، مع بقاء أجواء من الشكّ والريبة لدى كل طرف.
انتفاضة تشرين 2019
كيف تصف ما عُرف بـ"ثورة تشرين" عام 2019؟
– كلام حق يراد به باطل، واستغلال مطالب مشروعة ومحقة لأجندات خفية. اليوم بات واضحاً أن ما يسمى الثورات الذكية أو الملونة يُستخدم فيها أساساً الدعم المالي والبروباغندا لغسل العقول وتوجيه الجماهير إلى مسارات معينة لخدمة أهداف غير التي خرجوا من أجلها. أحداث تشرين في العراق كانت تعبيراً عن رغبة أميركية واسرائيلية بإضعاف العراق عندما بدأ يخرج، ولو جزئياً، من دائرة الاملاءات الأميركية، وفي وقت كانت قوى المقاومة التي تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية، تزداد قوة، لذلك كان القرار بإضعافها عبر اثارة الفوضى وإشعال فتنة شيعية – شيعية، وأخرى عراقية – عراقية، عبر استعلال المطالب المحقة للناس لأغراض سياسية.
هل تعني أنها كان مؤامرة؟ من كان وراءها وماذا كانت أهدافها؟
– طبعاً كانت مؤامرة. مثل هذه المطالب المحقة موجودة لدى شعوب دول كثيرة، ولكن عندما تكون هذه الدول قريبة من المعسكر الأميركي – الاسرائيلي، تهبّ دول القرار لمساعدتها والتخفيف من سوء الوضع فيها، أما إذا لم تكن قريبة من هذا المعسكر، فيجري غالباً استغلال هذه المطالب لتأليب الناس على الحكومات، كما حصل في العراق ولبنان وسوريا وإيران وغيرها. حتى الصين، مثلاً، التي كان تطور امكاناتها كإحدى دول العالم الثالث موضع ثناء، تقرّر فجأة أن تتم شيطنتها عندما أصبحت منافسة للولايات المتحدة، وهدّد ترامب بشن حرب تجارية عليها.
العراق، بعد 2003، حرص على التوازن في علاقاته بين الولايات المتحدة والجار الإيراني. مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، أراد الأميركيون أن تتوقف بغداد عن هذه السياسة. كانوا صريحين بالقول: إما معنا أو ضدنا. لا يمكن للعراق أن يقف ضد إيران رغم وجود بعض الخلافات. قد نختلف مع إيران حول توزيع المياه أو حول بئر نفط هنا أو مسألة أخرى هناك، لكن هذا لا يعني أن ندخل في حرب معها. الإدارة الأميركية، حتى في فترة حكم الجمهوري جورج بوش، كانت تتفهّم علاقات العراق بالجمهورية الاسلامية، وكان العراق أحياناً ينقل رسائل بين الطرفين. مع مجيء ترامب، تغيّرت الأمور، لم تعد هذه الوسطية العراقية مقبولة أميركياً.
إضافة إلى سوء الأوضاع السياسية والمعيشية في العراق، ما هو برأيك السبب السياسي الرئيسي لاندلاع انتفاضة تشرين ٢٠١٩؟
في الحقيقة، ليس سوء الأوضاع السياسية والمعيشية في العراق سبباً رئيسياً. صحيح هناك نوع من الرغبة لدى قطاعات وشرائح واسعة أن تُحسّن وضعها أكثر فأكثر. إلى حد ٢٠١٧، كان الإرهاب وأعمال الاغتيال والانتحاريين والمفخخات هي الشغل الشاغل للناس.
بعد ٢٠١٧، هدأت الأمور واستقرّت. وحصلت حالة من الأمن في البلاد بحيث أصبح المواطن يبحث عن مصالح أكثر وعن تحسين ظروفه المعيشية أكثر. وخصوصاً هناك الكثير من الشرائح كانت أوضاعها تتحسّن باستمرار. اليوم مستوى الأجور والرواتب لدى القوات المسلّحة جيّد ومرتفع، يتجاوز تقريباً الألف دولار للجندي. وهذا من دون حساب مخصصات أخرى.
الكل يُريد أن يُحسّن من أوضاعه. ليس الكلام، بين هلالين، عن سوء الأوضاع، الأوضاع تتحسّن، لكن الناس وجمهور المواطنين يُريد تحسّن أفضل. يُريدون كهرباء أفضل مياه أفضل يُريدون عمل. يُريدون رواتب أفضل. فالسعي نحو تحسين الظروف المعيشية وتحسين الأوضاع للعائلة وللفرد كان سبباً مع الحريات العامة في البلد في خروج الناس في تظاهرات سلمية. يقيناً في حكومة ٢٠١٨، الحكومة التي ترأستها، حصل خلاف أساسي. فقد جاءت إدارة ترامب بفلسفة جديدة. سابقاً كان هناك نوع من التساكن بين قوات الاحتلال أو القوات الأجنبية من جهة والجمهورية الإسلامية وأيضاً الخط الذي يؤيدها من جهة أخرى. كان معرّف نوعاً ما الخط الأحمر بين الطرفين.
مع إدارة الرئيس ترامب، لم يعد يقبل هذا المنطق. لم يقبل الرئيس الأمريكي من العراقيين أن تكون لهم علاقات جيدة بإيران وعلاقات جيدة بالولايات المتحدة الأمريكية. وأصبح يقول صراحة هو والوزير بومبيو والسفير الأمريكي في العراق أنّ عليكم أن تقفوا ضد إيران. كان لنا موقف صارم إزاء هذه المسألة. رفضنا هذا المنطق وحتى في المنهاج الوزاري قلنا نحن لسنا جزءاً من نظام العقوبات ضد إيران. وطبعاً هذا يُزعج الإدارة الأمريكية ولا يُرضيها. ثم حصلت سلسلة من الأعمال سواء مجيء الرئيس ترامب إلى قاعدة عين الأسد وعدم ذهابنا لاستقباله. أو حمايتنا للحشد الشعبي. استهدافهم هم والإسرائيليين لمقرات الحشد ومقرات الفصائل. هكذا كان الوضع يتصاعد. وهنا لا شك حصل تدخّل في استثمار المظاهرات السلمية.. المظاهرات العفوية المظاهرات البريئة. تم استغلالها لتحريك الشارع ضد الوضع في البلاد. ضد الحشد وضد الجمهورية الإسلامية فقد رفعوا شعار "إيران برّا برّا" وحرق القنصليات، إلى آخره.
وطبعاً هناك أطراف داخلية منها بقايا البعث وبقايا داعش وحتى قوى سياسية في العملية السياسية كانت طامحة أن تحصل على مناصب. وهذه شكّلت أجواء تشرين ٢٠١٩.
ألا تعتقد أن أحد هذه العوامل قد يكون سبباً في اندلاع الأحداث: قراركم فتح الحدود البرية العراقية-السورية؟ انفتاحكم على الصين؟ إقالة الفريق عبدالوهاب الساعدي من رئاسة جهاز مكافحة الإرهاب؟
نعم هذه عوامل قد تكون مؤثرة. لكن العامل الرئيسي والمركزي هو الموقف من الجمهورية الإسلامية. والموقف من الحشد ومن الفصائل. الموقف من حالة تصاعدية كانت تحصل في العراق خصوصاً بعد الانتصار على داعش. من قوة هذا المحور وتصاعد هذا المحور.
يقيناً فتح الحدود في القائم كان قرار مهم ولم يُرضِ الإسرائيليين ولم يُرضِ الأمريكان، لذلك حصل قصف للقائم وتسبب في شهادة أكثر من ٣٠ عنصر. والتشييع الذي حصل في اليومين التاليين هو الذي قاد إلى تطويق السفارة الأمريكية ومحاولة اقتحامها وما سبّبه من مشاكل. هذه كلها عوامل كانت تساهم في تصعيد الموقف من قبل الجانب الغربي الأمريكي الإسرائيلي ضد الحكومة.
يقيناً الانفتاح على الصين سيكون تأكيد لمثل هذه الاتجاهات على أنّ البلد يسير بعيداً عن الهيمنة الأمريكية أو الهيمنة الغربية أو الخضوع للشروط الإسرائيلية. وهم كانوا يأملون كثيراً من موضوع اجتياح العراق واحتلاله. لم يكن لعبة بل كان له أهداف استراتيجية كبيرة وكانوا يعتقدون أنّ تطويع العراق وإخضاعه ودفعه في اتجاهات معينة سيكون له تأثيرات استراتيجية كبرى في المنطقة . هذا هو الهدف الكبير وهذا برأيي قد فشل. وهذا مزعج لهم يقيناً.
أما إقالة الفريق عبدالوهاب الساعدي فهذا مبالغة في الموضوع لأنه لم يكن الشخص الأول في جهاز مكافحة الإرهاب. وجاء طلب من رئيسه الفريق طالب شغاثي يطلب نقله، وبصفتي كقائد عام للقوات المسلحة قمنا بنقله. وعلاقتي بالفريق عبدالوهاب الساعدي علاقة جيدة. حتى أنني في عملية تحرير مصفاة بيجي وعندما ذهبت إلى مصفى بيجي أثناء الحرب ضد داعش، كان هو من القادة الذين نظّموا عمليات عسكرية في تلك المنطقة. يومها أهديته مسدسي. لم تكن بيني وبين الفريق الساعدي مشكلة مباشرة. قد يكون ملفّه استُغلّ من الآخرين، لكن من ناحيتنا نحن قمنا بتنفيذ طلب من رئيسه بنقله. وكنا ننوي تعيينه في مكان مرموق وفي مكان مهم.
هل حاول الأمريكيون فرض شروط سياسية عليكم قبل تشرين ٢٠١٩، ورفضتموها؟ في حال الإيجاب، ما هي؟
كل الذي ذكرته قبل قليل في الإجابات السابقة كان يقال بصوت عالي. عليكم أن تفعلوا كذا وأن تضربوا الفصائل المسلحة. عليكم أن تمنعوا تحويل الأموال إلى الجمهورية الإسلامية. عليكم أن تقفوا ضد مجيء الفريق الشهيد قاسم سليماني إلى العراق.
وكان السفير الأمريكي يطلب اللقاء مرتين وثلاث مرات في الأسبوع. إضافة إلى مجيء كبار المسؤولين الأمريكيين والقادة العسكريين بشكل دائم دوري. ناهيك عن قادة الناتو القوات الأخرى.
نعم نحن لم نكن نريد المشاكسة وكنا حريصين أن نُبقي علاقات الصداقة مع أمريكا والغرب، لكن كنا نثبّت ما نعتقده سياسة سيادية مستقلة سليمة متوازنة في العراق كنا نقوم بها سابقاً ولاحقاً بعد ذهاب إدارة ترامب أيضاً عادت بعض الأمور إلى السياقات القديمة.
عندما كان يأتي مسؤول إيراني مثل الأخ علي شمخاني أو غيره، كان الأمريكان يُقيمون الدنيا ولا يُقعدوها. وطبعاً الضغط الأهم ليس على رئيس الوزراء فحسب، بل هو على عدد كبير جداً من المسؤولين في المواقع الرئيسية في البلد سواء في وزارة الداخلية أو الدفاع أو البنك المركزي أو الاستخبارات أو TBI (البنك التجاري العراقي) أو وزارات النفط أو غيرها من مواقع، الضغط هناك أشدّ وأكبر ويأتي بطُرق حقيقة ذكية ومغطاة ومغرية وتحاول أمريكا أن تبدو كأنما هي حمل وديع أو كأنما تُقدم خدمة للشعب العراقي بينما هي في الحقيقة تُرسّخ التبعية والاعتماد وآمرية الولايات المتحدة والدول الحليفة معها على العراق.
أقرأ ايضاً
- تصل الى (29) تخصص في اربع فروع العتبة الحسينية: الاعدادية المهنية للبنات تدرس (5) اقسام الكترونية علمية
- طبيب اختصاص يتحدث عن خطورة اللحوم المستوردة على حياة المواطنين بالعراق (فيديو)
- مكافحة مخدرات النجف: انجازات (2023) تعادل عمل خمس سنوات سابقة