- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
سد مكحول على نهر دجلة.. مضار كبيرة بدون منافع
بقلم: حسن الجنابي - وزير وسفير سابق
يعتقد بعض الناس بأن العراق بحاجة الى بناء المزيد من السدود الكبرى لمواجهة احتمالات شح الموارد المائية. قد يكون هذا الإعتقاد مقبولاً اذا ورد على لسان عامة المواطنين غير المختصين.
أما لدى المختصين، فالمنصفون منهم لا يؤيدون ذلك، لأن الطاقة التخزينية القائمة حالياً في العراق تزيد عن معدل ايرادات نهري دجلة والفرات لسنوات عديدة، ولذلك تبقى لدينا فراغات خزنية كبيرة على مدار الأعوام. ومن يؤيد انشاء سدود كبرى في العراق من المختصين فيجب البحث في دوافعه الحقيقية، إذ لا يوجد سبب علمي او اجتماعي او طبيعي واحد لهكذا موقف مؤيد لهدر المال العام على مشاريع غير مجدية اقتصادياً ومضرّة بيئياً وأحياناً كثيرة اجتماعياً وثقافياً.
فالسدود والمنشآت المائية تقام اذا كانت عائداتها المادية والإقتصادية تفوق مضارّها المعروفة، باعتبار أن إنشاء السدود يعتبر تدخلاً متعسفاً في الجريان الطبيعي للأنهار له تأثيرات بيئية واقتصادية سلبية كثيرة، مثل القضاء على التنوع الإحيائي والإضرار بالثروة السمكية وتقليص مساحات الأهوار والاراضي الرطبة، فضلاً عن أخطار الإنهيار وتصاعد كلف صيانة المنشآت وغير ذلك. ومتى ما اختلت معادلة الفوائد والاضرار لصالح الأخيرة يصبح المنشأ عبئاً ثقيلاً.
لقد أنشئت السدود الكبرى في العراق في ظروف مختلفة تماماً من حيث الإيرادات المائية وفي ظل إنعدام السيطرة على المياه خارج الحدود، مما جعل مياه الرافدين دجلة والفرات والروافد تجري الى العراق بدون أية عوائق حتى اواسط السبعينات.
إن استكمال انشاء شبكة كبيرة من السدود خارج العراق في أعالي النهرين والروافد في الفترة 1975-2020 تسبب في تناقص الإيرادت المائية تدريجياً فوصلت مؤخراً الى مستويات حرجة، أصبحت معها السدود العراقية تبدو وكأنها صُمّمت ونُفّذت لزمن آخر وبطاقةٍ أكبر مما ينبغي (Over designed).
إن هذا الإنطباع “صحيح” حالياً دون أن يعني بأن تصميم تلك السدود كان خاطئاً في الأصل. فالتصاميم كانت قد أنجزت بعد دراسات مستفيضة للموارد المائية في ظل الظروف السائدة حينها، لكنها افتقدت كما يبدو لإستشراف المستقبل، بمعنى آخر أنها اهملت التنبؤ في سيناريو التطورات التي حصلت في دول الجوار لاحقاً. وإن حجم السيطرة على جريان الأنهر، ناهيك عن ظروف الدمار الناتجة عن الحروب وما تبعها من أحداث سياسية في العراق أدت الى تآكل قدراته في حماية سيادته وثرواته منذ التسعينات.
في كل الأحوال لقد أدت تلك السدود دورها بكفاءة خلال السبعين عاماً المنصرمة، في حالة سدود دربندخان ودوكان مثلاً، وما يقرب من الأربعين عاماً في حالة سدي الموصل وحديثة، وأعتقد بأنها قد بررت الكلف المالية التي انفقت عليها الى حد كبير.
كذلك فقد أنشئت منشآت سيطرة على المياه في العراق منذ أكثر من مائة عام، كما في حالة سدة الهندية على الفرات (استبدلت بسدة أخرى عام 1989)، أو تسعين عاماً كما في حالة سدة الكوت على دجلة، أو سبعين عاماً كما هو حال سدة سامراء ومنظومة سدة الرمادي. لكن تلك السدات، التي أضيفت لها لاحقاً سدّات مهمة أخرى، كالفلوجة والكوفة والعباسية والعمارة، هي ليست منشآت تخزينية وأنما تنظيمية تلعب دوراً حرجاً في توزيعات المياه في مختلف مناطق العراق، وتؤمّن في الظروف الإعتيادية عدالة توزيع الموارد المائية على المستخدمين. لكن الملاحظ حالياً بأن جميع تلك المنشآت من سدود وسدّات تعمل بنسب متدنية جداً من كفائتها التصميمة بسبب تغير الظروف الهيدرولوجية. وبهذا الصدد يمكن تأشير مايلي بخصوص ماورد أعلاه:
من الواضح ان الواقع المائي الذي كان قائماً عند تصميم تلك المنشآت وتنفيذها لم يعد قائماً. وهذا يحتم مراجعة شاملة ودقيقة لوظائفها لتعزيز كفاءة الأداء وسلامة التشغيل. وأبرز مثال على سوء التقديرات التي كانت سائدة في السبعينات والثمانينات والتسعينات هي محطة ضخ الناصرية على المصب العام. فقد صممت ونفذت بمبالغ طائلة على اساس تصريف 200 متر مكعب في الثانية عن طريق نصب 12 مضخة بطاقة 20 متر مكعب في الثانية للواحدة، وعلى افتراض تشغيل عشرة مضخات يومياً والإبقاء على مضختين للإحتياط. ولكن الوضع تغيّر دراماتيكياً بحيث يجري حالياً تشغيل مضخة واحدة فقط خلال فترات متقطعة بدلاً من العشرة المنصوبة، أي ان تشغيل المحطة يجري بكفاءة أقل من 10% من الطاقة التصميمية. ينطبق الأمر نفسه على مبزل الفرات الشرقي الذي أنجز بعشرات الملايين من الدولارات لتمرير مياه بزل بتصريف 75 متر مكعب بالثانية !
أما بخصوص الطاقة الكهرومائية، فعلى سبيل المثال تبلغ الطاقة الكهرومائية التصميمية المنصوبة في سد الموصل (750) ميكاواط ولكن معدل انتاجها الفعلي لا يزيد على (115) ميكا واط. ونفس الملاحظة تنطبق على سدود دوكان الذي ينتج 45 ميكاواط من اصل الطاقة التصميمية 550 ميكاواط، ودربندخان بحدود 20 ميكاواط من أصل 240 وحمرين حالياً صفر من أصل 50 وحديثة بحدود 80 من أصل 660 ميكا واط وهلم جرّا.
وباختصار فإن الطاقة الكهرومائية المنتجة من السدود هي بحدود 10 الى 15% من الطاقة التصميمية المتاحة في تلك المواقع. وبما أن انتاج الطاقة الكهرومائية مرتبط مباشرة بالاطلاقات المائية المرتبطة هي الأخرى بالخزين المائي المتوفر فهذا يعني ان الفراغات الخزنية في السدود والخزانات كبيرة جداً نتيجة لقلة الإيرادات، وبالتالي فإن طاقة التخزين المتاحة حالياً كبيرة جدا ولا يوجد أي سبب لإنشاء سدود تخزينية كبيرة اضافية.
يمكن أيضاً ذكر أمثلة عديدة أخرى لإثبات النقطة أعلاه، منها ان سدة الكوت صممت لإستيعاب وتمرير تصريف 6000 متر مكعب في الثانية وسدة الفلوجة 3500 متر مكعب في الثانية وسدة الهندية 3000 متر مكعب في الثانية وسدة الكوفة 1400 متر مكعب في الثانية... الخ. وكل هذه المنشآت لم تشهد تصاريف مائية كالتي صممتْ من اجلها حتى عندما كان الوضع المائي أفضل بكثير.
بل حتى المنشآت التي اقيمت في فترات لاحقة تضمنت مثلاً ما يسمى “هويس ملاحي” للسماح بحركة السفن والمراكب في الانهار، وهذه الحالات من النقل النهري لم تعد ممكنة في الظروف السائدة منذ اكثر من خمسين عاماً.
وهنا لستُ في وارد انتقاد مهندسينا الأوائل مطلقاً، بل على العكس فقد صمّموا ونفّذوا ببراعة وفق معطيات كانت سائدة عبر التاريخ وبعامل أمان معقول لحماية المنشآت من الإنهيار، ولكن الخمسين عاماً الأخيرة شهدت تطورا محزناً ومخيفاً في احواض الأنهار العراقية، جعلت العراق أسيراً لكماشتين: الأولى داخلية وهي سيادة ثقافة درء الفيضان وبناء السدود المرتبطة بإفتراضٍ لم يعد قائماً هو وفرة المياه للعراق كما كان الوضع عبر التاريخ، وهذه المقاربة يجب تركها والتوجه نحو استراتيجيات مواجهة الشحة، والكماشة الأخرى هي السيطرة شبه المطلقة لدول الجوار على الأيرادات المائية.
إن أغلب البنى التحتية في القطاع المائي في العراق انشأت بعمر إفتراضي يبلغ بحدود 50 سنة وفي أقصى الحالات 100 سنة، وهذا هو الإطار الزمني لجميع المنشآت الهيدروليكية في العالم.
لذلك فقد بلغت سن “الشيخوخة” وأضحت عبئاً فنياً يتمثل في تشغيلها بكفاءة أقل بكثير من الكفاءة المستهدفة، وعبئاً مالياً نظراً للحاجة الى صيانتها بكلف أعلى بسبب عمرها الطويل، فضلاً عن زيادة المخاطرة الناتجة عن احتمالات انهيارها، خاصة ان لم تكن أعمال الصيانة الدورية منتظمة وشاملة. فهذه المنشآت تجاوزت عمرها الإنتاجي وبذلك تكون عائداتها المالية والإقتصادية أقل من منافعها التي انشأت من أجلها.
حتى المنشآت التي أقيمت بوقت متأخر نسبيا مثل النواظم الرئيسية ومنها على سبيل المثال “ناظم ابو صخير” فقد كانت طاقاتها التصميمية مبالغ فيها. أما مشاريع الإستصلاح ومنها مثلاً مشروع “كفل-شنافية” فهي مشاريع فاشلة بامتياز وتسببت بهدر مالي وبيئي واقتصادي كبير لأنها مصممة لتناسب ظروفاً مائيةً لم تعد قائمة.
-يتبع-
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد