يعاني نظام الرعاية الصحية في العراق من أزمة بسبب نقص في الدواء وفي أعداد العاملين القائمين على الرعاية الطبية، حيث يعمد الأطباء للهرب إلى الخارج بالآلاف كما أن متوسط الأعمار ومعدلات وفيات الأطفال أقل بكثير منها في باقي أنحاء المنطقة.
وتناولت وكالة "رويترز" في تقرير لها الوضع الصحي في العراق وخصوصا مع ظهور خطر جديد على الجانب الآخر من الحدود مع إيران يتمثل في وفاة العشرات بعدما أصيبوا بفيروس كورونا المستجد، كان أحدهم نائب وزير الصحة، الأمر الذي دفع الحكومة العراقية إلى إغلاق الحدود، وأعلن العراق في الأيام الأخيرة عن ظهور المرض في أراضيه.
وخلال الثلاثين عاما الماضية تعرضت البلاد للخراب بفعل الحروب والعقوبات الدولية والصراع الطائفي والحرب مع تنظيم داعش الارهابي، لكن حتى في أوقات الاستقرار النسبي ضاعت على العراق فرص توسيع نظام الرعاية الصحية وإعادة بنائه.
ففي عام 2019 على سبيل المثال، وهو عام شهد هدوءاً نسبياً، خصصت الحكومة 2.5 في المئة فقط من موازنة الدولة البالغة 106.5 مليار دولار لوزارة الصحة. وهذا مبلغ ضئيل مقارنة بما يتم إنفاقه في دول أخرى بالشرق الأوسط.
وفي المقابل حصلت قوى الأمن على 18 في المئة ووزارة النفط على 13.5 في المئة.
وتظهر بيانات منظمة الصحة العالمية أن الحكومة المركزية في العراق أنفقت خلال السنوات العشر الأخيرة مبلغا أقل بكثير على الرعاية الصحية للفرد من دول أفقر كثيرا، إذ بلغ نصيب الفرد من هذا الانفاق 161 دولارا في المتوسط بالمقارنة مع 304 دولارات في الأردن و649 دولارا في لبنان.
وقال علاء العلوان وزير الصحة العراقي السابق لـ"رويترز" في آب الماضي "الوضع الصحي في العراق تراجع بشكل كبير جدا خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. وأحد أسباب هذا التراجع، وليس فقط السبب الوحيد، هو عدم إعطاء أولوية من قبل الحكومات المتعاقبة للصحة في العراق.
وأضاف "الصحة في العراق لا تعتبر أولوية، ولذلك ركزنا على المعطيات التي تشير إلى مدى إعطاء أولوية للقطاع الصحي في الموازنة الحكومية".
واستقال العلوان، الذي سبق أن شغل مناصب عليا في منظمة الصحة العالمية، من منصبه الوزاري في الشهر التالي بعد أن أمضى عاما واحدا في المنصب مستشهدا بفساد لا يمكن التغلب عليه وتهديدات من معارضين لجهوده الإصلاحية.
وسوء الرعاية الصحية أحد المظالم الرئيسية التي ينتفض عليها الشعب العراقي كما أن نقص فرص العلاج من السرطان قضية ساخنة، وتمتلئ البرامج الإخبارية على شاشات التلفزيون كل يوم تقريبا بقصص الآباء الملتاعين لأطفال مصابين بالسرطان.
ويقول المدرس كرار محمد (25 عاما) الذي توفي أبوه بالسرطان "أنا هنا اليوم لأن أمي مريضة بالسرطان وما حتى تقدر تحصل أبسط علاج".
عنابر مزدحمة وأطباء مرهقون
كان مصطفى يرقد على سرير في غرفة المعيشة ببيت عمه في البصرة، وكان ألم صامت يعتصر وجهه ولم يكن بمقدوره الشعور بالراحة في رقاده بسبب الورم المصاب به في ظهره.
بدأت مشكلة مصطفى بألم بسيط في الساق في 2016 وأساء أطباء تشخيص حالته في البداية فقالوا إنه مصاب بالتهاب في المفاصل.
وعندما تم اكتشاف الورم كانت حالته الصحية قد تدهورت، وقرر الأطباء أنه مصاب بنوع من السرطان يصيب الأنسجة الضامة وبدأ مصطفى رحلة العلاج في المستشفى التخصصي للأطفال في البصرة.
يعاني المستشفى من عجز كبير في الغرف، إذ تزدحم كل غرفة بستة أسرة كلها مشغولة ويتمثل تخلف العراق عن باقي المنطقة في معدل أسرة المستشفيات إذ يبلغ 1.2 سرير فقط لكل ألف نسمة.
وتنام الأمهات على الأرض بجوار أسرة الأطفال المرضى أما الآباء فينامون في مقطورة قريبة يسميها العراقيون "الكارافان" بل إن غرف الطوارئ أعيد تجهيزها لكي تتسع لمزيد من المرضى.
ويقول إداريون إن المستشفى قد يضطر قريبا للتوسع في المساحات المخصصة للمخازن.
ويشكو الآباء من أن قلة المساحات المتاحة ليست في صالح أطفالهم الذين يعانون من نقص المناعة بسبب العلاج الكيماوي لكنهم يدركون أنه لن يتم السماح بدخول أغلب الأطفال إذا شرع المستشفى في تقييد نسبة الإشغال.
والبصرة، أكبر مدن الجنوب، هي العاصمة الاقتصادية للعراق وتصدر من النفط ما يوفر 90 في المئة من إيرادات الدولة. غير أن نظام الرعاية الصحية يعاني من نقص مزمن في التمويل ويديره فريق مرهق من الأطباء والممرضات وفقا لما يقوله أطباء ومرضى في المدينة وحسب تحليل لبيانات وزارة الصحة.
ويشير المرضى والأطباء إلى الفساد وسوء الإدارة على المستويين الاتحادي والمحلي.
وتعاني البصرة من نقص شديد في معدات طبية حيوية حيث لا يوجد بها سوى ثلاثة أجهزة للأشعة المقطعية ووحدة واحدة للفحص بالرنين المغناطيسي لكل مليون نسمة وهي نسبة لا تذكر مقارنة مع المتوسط العام في الدول المتقدمة والذي يبلغ 26 جهازا للأشعة المقطعية و16 جهازا للرنين المغناطيسي.
التمويل ليس المشكلة الوحيدة
اللوائح الحكومية التي ترجع إلى السبعينيات تمنع الأطباء من شراء معدات أو أدوية من القطاع الخاص، ويتعين عليهم بدلا من ذلك استلام الأدوية مباشرة من وزارة الصحة في بغداد والتي لا تملك في كثير من الأحيان ما يكفي منها.
ونظرا لخضوع تلك الأدوية للفحص والاعتماد من قبل جهة حكومية فإنها تعتبر مستوفاة للشروط القانونية.
والرعاية الصحية أفضل في إقليم كردستان الذي نجا مما شهده العراق من دمار ما بعد الغزو الأميركي والحرب الأهلية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ويعيش في الإقليم ما بين 15 و20 في المئة من سكان العراق لكنه يضم ربع ما في العراق من مراكز لأمراض القلب والتأهيل وثلث مراكز علاج مرض السكري.
وفي حين أن نسبة الأسرة بالمستشفيات تبلغ 1.1 ونسبة الأطباء 0.8 لكل ألف مواطن في باقي مناطق العراق فإن النسبة تبلغ 1.5 سرير و1.4 طبيب في كردستان.
ويقول مسؤولون بجهات تنظيمية ومستوردون من القطاع الخاص إن بعض الشركات الدولية تتجنب إبرام تعاملات مباشرة مع الحكومة العراقية بسبب الفساد وعدم الاستقرار.
وتستورد الحكومة الدواء والمعدات الطبية من خلال الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية المعروفة باسم كيماديا. وأصر مدير عام الشركة على أن العلاقة مع شركات الأدوية طيبة لكنه سلم بأن كيماديا شركة عتيقة ولا تحظى بتمويل كاف وتفشل في كثير من الأحيان في تلبية الطلب.
وتمتلئ الصيدليات بالأدوية المهربة التي ربما تجاوز بعضها تاريخ الصلاحية أو أصبح استخدامه غير مأمون العواقب.
ولا يستطيع العراق أيضا التعويل على الصناعة المحلية في إنتاج الأدوية. فقد اختلف الوضع اختلافا كبيرا عما كان عليه في الستينيات والسبعينيات عندما كانت الرعاية الصحية بالعراق موضع حسد في منطقة الشرق الأوسط.
فقد كان العراق ثاني دولة بعد مصر تدخل مرحلة تصنيع الدواء. أما الآن فيقف مصنعان كبيران مملوكان للدولة شاهدا على مدى الانحطاط الذي حل بالصناعة.
ويقع المصنع الأول في الموصل وقد لحق به الدمار بسبب سيطرة تنظيم داعش الارهابي على المنطقة. أما الثاني فيقع في سامراء شمالي بغداد ويعمل بمعدات عتيقة. وتتولى عاملات تجميع مستلزمات علاج البثور بأشرطة مطاطية بينما يتولى عمال من الرجال تعبئة العلب يدويا.
ويوجد 17 مصنعا مملوكة لمستثمري القطاع الخاص لكنها تنتج أيضا أدوية أساسية بتكنولوجيا عفا عليها الزمن.
ويبلغ عدد الأطباء والممرضات في العراق مقارنة بعدد السكان أقل بكثير من دول أخرى بل إن عددهم أقل بكثير من دول أفقر مثل الأردن وتونس.
ففي 2018، كان العراق لديه 2.1 ممرضة وقابلة لكل ألف نسمة مقارنة مع 3.2 في الأردن و3.7 في لبنان وذلك وفقا لتقديرات كل بلد.
وبلغ عدد الأطباء 0.83 فقط لكل ألف نسمة أي أقل بكثير من الدول المماثلة في الشرق الأوسط. فقد بلغ العدد في الأردن على سبيل المثال 2.3 طبيب لكل ألف نسمة.
وقالت نقابة الأطباء إن حوالي 20 ألف طبيب، أي حوالي ثلث الأطباء المسجلين في العراق البالغ عددهم 52 ألفا، فروا من البلاد منذ التسعينيات.
وقال طبيب إن نصف 300 طبيب تخرجوا في دفعته عام 2005 رحلوا عن العراق.
وأضاف أن اثنين من أفضل أصدقائه واثنين من أبناء عمومته وأحد أعمامه فروا إلى الخارج.
ويبلغ متوسط أجور الأطباء في العراق ما بين 700 و800 دولار في الشهر فقط ويبحث كثيرون عن وظائف إضافية في القطاع الخاص لزيادة دخلهم المنخفض.
ويعاني معظم الأطباء الشبان من ضغوط العمل الشديدة ويعمل الواحد منهم ورديات تتراوح بين 12 و16 ساعة كل يوم.
وفي ايلول 2019، خرج مئات الأطباء إلى شوارع بغداد للمطالبة بتحسين أجورهم وظروف العمل وذلك قبل أيام فحسب من احتجاجات واسعة النطاق اجتاحت البلاد مع تفجر الغضب من تدهور الخدمات العامة والفساد في الأوساط الرسمية.
أقرأ ايضاً
- فاطمة عند الامام الحسين :حاصرتها الامراض والصواريخ والقنابل.. العتبة الحسينية تتبنى علاج الطفلة اللبنانية العليلة "فاطمة "
- بركات الامام الحسين وصلت الى غزة ولبنان :العتبة الحسينية مثلت العراق انسانيا(تقرير مصور)
- تقرير دولي: عوائل ايزيدية ما تزال بحاجة لبرامج دعم في مناطقهم