على الرغم من العائد المادي الجيد لجامعي الكمأ، والذي يكون وفيرا في بعض المواسم، إلا أن المهنة ليست بالهينة وتكتنفها الكثير من المخاطر والمتاعب، وفي السنوات الأخيرة وتحديدا بعد سيطرة تنظيم داعش الارهابي على مناطق واسعة من شمال وغرب العراق، باتت حياة الباحثين عن "اللحم النباتي" مهددة بشكل فعلي لانتشار العبوات الناسفة والمتفجرات إلى جانب عمليات الخطف.
لكن هناك أيضا جانبا مشرقا وقصصا مشوقة ترافق أيام وليالي جمع الكمأ وقضاء ساعات ممتعة، إلى جانب التعرف على أناس جدد، والتنقل بين محافظات عدة بحثا عن الأراضي الأكثر وفرة.
ويقول مرتضى ثجيل (28 عاما)، أحد جامعي الكمأ من محافظة المثنى، إن "موسم جمع الكمأ يبدأ في شهري كانون الثاني وشباط من كل عام في بادية السماوة بالمثنى أو بادية عكاشات في محافظة الأنبار، ويرجع تحديد وجود الكمأ في أي منطقة تبعا لوفرة الأمطار، وهذا العام شهد وفرة في تساقط الأمطار عند المناطق الغربية ما زاد من فرص العثور عليه".
ويضيف "نقوم بتحضير كل المعدات التي نحتاجها طيلة ذهابنا وإيابنا خلال الرحلة وهي الخيمة وقنينة غاز وطباخ وآواني الطبخ ومواد غذائية ومصابيح وغيرها بالرحلة قد تستغرق أياما وليالي".
ويتابع "أنا من مواليد 1996 وحاصل على بكالوريوس رياضيات من كلية التربية الأساسية في جامعة المثنى، تخرجت قبل سنتين لكنني اخترت هذه المهنة التي ورثتها من أبي".
ويؤكد ثجيل "نحن لا نأتي إلى البادية للعمل وجمع الكمأ فقط، وإنما للنزهة والاستجمام بالطبيعة الخلابة البعيدة عن صخب المدن وضوضاء البشر والحياة العامة".
ويوضح "تعتبر منطقة خنيصر ببادية عكاشات من أكثر المناطق وفرة بالكمأ، ونستطيع جني قرابة 5 كيلوغرامات في اليوم الواحد، لكن أفضل أنواع الكمأ يوجد في بادية السماوة، إلا أن الأمطار هناك كانت شحيحة خلال هذا الموسم، وقد لا نحصل على كيلوغرام واحد في اليوم، ويتراوح الربح بين 80 ألفا إلى 100 ألف دينار (نحو 50 إلى 70 دولارا) في اليوم، وعادة نبقى أسبوعين أو أكثر في البادية وفي الحصيلة النهائية نجمع من 50 إلى 60 كيلوغراما".
وينتمي الكمأ إلى فصيلة الفطريات، ويتكون من عقد نيتروجينية فطرية، حيث يتحد غازا النتروجين والهيدروجين مع بعضهما عندما تحدث الشرارة الكهربائية وهي البرق، عندها يتكون مركّب أميني ينزل للأرض ويدور بحركة سريعة يجمع الأملاح والمعادن الموجودة بالتربة.
وللكمأ عدة أسماء، ابن الرعد، وبنت البرق، ونعمة الله، ولحم الفقير، واللحم النباتي، والفطر البري، والترفاس، والفقع، والذهب الأبيض، والذهب الأصفر.
وبعد جمع الكمأ يتم جلبه إلى العلوة (وهي مكان مخصص لبيع الخضار والفواكه الطازجة)، لتبدأ عملية البيع والشراء.
ويوضح صاحب علوة بيع الكمأ في السماوة، الحاج سلام حذاف، أن "عمل العلوة يبدأ عند السادسة صباحا، حيث نشتري الكمأ من جناته، ثم يبدأ المزاد عند الساعة السابعة".
وحول عمله في هذه المهنة وتفاصيلها خلال العقود الماضية، يبين الحاج سلام: "ورثت هذه مهنة من أبي مذ كنت صغيرا، وأعمل بها منذ ستينيات القرن الماضي، وفي السابق كانت الأمطار كثيرة، وعدد السكان قليلا، ما جعل العرض كبيرا والطلب قليلا، حيث لم يكن سعر الكيلو الواحد في سبعينيات القرن الماضي، يتجاوز ربع دينار (نحو 0.80 دولار حينها) في السماوة، فنضطر إلى نقله لبغداد، حيث نبيع الكيلو هناك بنحو نصف دينار (1.6 دولار)، ولكن بعد زوال حكم أحمد حسن البكر ومجيئ صدام للسلطة (عام 1979) اختلف الأمر كليا جراء الحروب والمشاكل التي خضناها".
ويتابع أن "الكمأ يباع بحسب حجمه، وهناك تسميات تطلق على كل حجم، فالأصغر حجما مثلا يسمى الجوزة، وهو الذي تطلبه العوائل الفقيرة، ويبلغ سعر الكيلو الواحد منه 10 آلاف دينار أو أكثر بقليل، وأما ما هو بحجم البيضة فيتراوح سعر الكيلو بين 20 إلى 25 ألف دينار، وتلك التي بحجم اللالنكي (اليوسفي) فسعر الكيلو منه بـ35 إلى 40 ألف دينار، وأما الرمانية (نسبة إلى حجم فاكهة الرمان) فهي المرغوبة عند الميسورين، فيصل سعر الكيلو الواحد إلى أكثر من 100 ألف دينار".
ويؤكد صاحب العلوة "ذات مرة ذهبنا أنا وصديقي وعائلته المكونة من 11 فردا إلى البادية لجمع الكمأ ونصبنا الخيمة وتركتهم قليلا من أجل أمر ثم سمعت صوت انفجار، وحين عدت وجدت أنهم جميعا قتلوا بانفجار لغم أرضي من مخلفات حرب الكويت".
وكان تنظيم داعش الارهابي قد قام في العام 2019 بعدة عمليات اختطاف لجامعي الكمأ، ففي نهاية كانون الثاني، قام التنظيم بخطف ثلاثة أشخاص من جامعي الكمأ من قضاء حديثة في الأنبار وقتلهم، وكذلك في شهر شباط اختطف ثلاثة أشقاء في منطقة جبال مكحول شمالي صلاح الدين، وفي 18 شباط أيضا اختطف 12 شخصا من منطقة صحراوية نائية غرب قضاء النخيب على الحدود بين محافظتي الأنبار وكربلاء.
بدوره، يلفت مدير بيئة المثنى يوسف سوادي، إلى أن "محافظة المثنى من أكثر محافظات العراق تلوثا بالقنابل العنقودية، حيث تزيد المساحة الملوثة على 120 كيلومترا مربعا، وأماكن وجود هذه المتفجرات مثبتة لدينا وعمليات إزالتها مستمرة من قبل مديرية الدفاع المدني والمنظمة النرويجية لكن وتيرة العمل بطيئة بسبب ضعف التمويل".
ويشرح "لغاية العام 2013 كان معدل الإصابات بانفجارات الألغام والقنابل العنقودية أكثر من 3400 ضحية من رعاة الأغنام والإبل ومن يجمعون الكمأ أو يذهبون للنزهة في بادية السماوة، وهذا العدد في تزايد نتيجة وجود هذه المخلفات الخطيرة بالمحافظة، ونطالب المنظمات الدولية والدول والحكومة المركزية بدعم المثنى التي تعتبر من أفقر محافظات البلاد".
ويعدّ العراق واحدا من أكثر بلدان العالم التي يتواجد فيها الكمأ، إذ يتوفر بكثرة في الصحراء الغربية وبعض مناطق وسط وجنوب البلاد، مطلع موسم الربيع من كل عام، وفي حال كانت هناك أمطار غير مصحوبة بالبرق والرعد فلا تجدي نفعا في نموه، أي أن السبب المهم في وجود الكمأ هو حدوث البرق الذي يعمل على إظهاره على شكل تشققات على سطح الأرض.
ويفصل الطبيب محمد هاتف، مكونات الكمأ وفوائده، بأنه "يحتوي على البروتين بنسبة 9 بالمئة والمواد النشوية بنسبة 13 بالمئة، والدهن بنسبة 1 بالمئة، وعلى الأحماض الأمينية ومعادن مشابهة لتلك التي يحتويها جسم الإنسان مثل الفوسفور والصوديوم والكالسيوم والبوتاسيوم، وكذلك فيتامينات B1 وB2 وA، كما يحتوي على كميات من النيتروجين والكاربون والأوكسجين والهيدروجين والحديد والكالسيوم، وهذا ما يجعل تركيبه شبيها بتركيب اللحم".
ويعدد الفوائد التي فيه للإنسان "يقي من الأمراض المزمنة، وهو مصدر أساسي لحماية العينين من التورم، ويساهم في تسهيل الدورة الدموية للإنسان، ويسهم بنمو وتقوية العظام".
وينصح هاتف بـ"عدم أكل الكمأة من قبل المصابين بأمراض في جهازهم الهضمي أو من يعانون من الحساسية والأمراض الجلدية، ويجب عدم أكل الكمأة نيئا وعدم شرب الماء البارد عليه إذا كان مطبوخا لما في ذلك من ضرر على المعدة".
ويستخدم الكمأ في صناعة مختلف أنواع الأدوية العشبية، إذ بحسب أطباء أعشاب مختلفين، فإن للكمأ فوائد طبية عديد وكثيرة، مثلا يعالج ماء الكمأ التهابات العين واضطرابات الرؤية والماء الأبيض والحساسية وهشاشة العظام، كما يستخدم لعلاج التشققات الجلدية أيضا، عبر غليه وخلطه أو تجفيفه وسحقه مع مواد عشبية طبية أخرى.
من جانبه، يقول رئيس اتحاد رجال الأعمال العراقيين فرع المثنى دريد الأعرجي، إن "الكمأ مصدر مهم من المصادر الاقتصادية لأصحاب الدخل المحدود في المحافظة ذات نسبة البطالة العالية جدا، خصوصا بعد هجرة المزارعين إلى المدينة ومحافظات أخرى بسبب التغيرات المناخية التي أدت إلى شح المياه وجفاف التربة، ويتم تصدير هذه المادة إلى بقية المحافظات ودول الخليج".
ويضيف "الكمأ يضاهي اللحم الحيواني بسعره وذلك لندرة وجوده خلال السنة، لأن موسمه محدود جدا وجمعه يتطلب جهدا ومخاطرة، وكذلك بعد استخراجه من تحت التراب يجب أن لا يبقى لفترة طويلة، لأنه ينكمش بمرور الوقت بسبب الهواء وأشعة الشمس ويصغر حجمه ويفقد الكثير من طعمه وقيمته الغذائية، كل هذه الأسباب تجعل سعره مرتفعا".
ويعد الكمأ موردا اقتصاديا لسكان البادية بالرغم من قصر دورة حياته، وتنتج بادية السماوة آلاف الأطنان منه في سنوات الوفرة، ويتم تسويقه عادة إلى مدن السماوة (مركز محافظة المثنى)، وبغداد والزبير (جنوبي محافظة البصرة)، فضلا عن كونه مادة غذائية أساسية لوجبات الأهالي في بصية والسلمان (مدن بالمثنى) في مرحلتي الإنبات والتسويق.
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- فاطمة عند الامام الحسين :حاصرتها الامراض والصواريخ والقنابل.. العتبة الحسينية تتبنى علاج الطفلة اللبنانية العليلة "فاطمة "
- المجلس الشيعي الاعلى في لبنان: السيد السيستاني الداعم الاقوى والاكبر للشعب اللبناني في هذه المرحلة المصيرية(فيديو)
- تبعد (165) كيلومتر عن دمشق: يد السيستاني الرحيمة تغيث اللبنانيين في حمص السورية(فيديو)