- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
دولة المَكْرَمات و دولة الاصلاحات في العراق ( 1958 – 2017 )
بقلم: د. عماد عبداللطيف سالم
لا قانون مقدّس، وغير قابل للتعديل. وأنظمة الرواتب يجب أن تكون مرنة، وتستجيب لمتغيّرات الاقتصاد الكليّة، وتحافظ في ذات الوقت على كرامة أولئك الذين يعتاشون منها (هُم وعوائلهم)، وتضمن لهم جميعاً مستوىً مقبولاً ولائقاً بحياة البشر.
وليس كلّ اعتراضِ على اجراءٍ حكوميّ ما، انمّا يتم بدافع المصلحة، والدفاع عن امتيازات شريحةٍ من المواطنين دون أخرى.
مع ذلك، ورغم ذلك، فإنّ دفاع متقاعدٍ عن "امتيازات " راتبٍ تقاعديّ (بعد 46 عاماً من تسديدٍ منتظم للتوقيفات التقاعدية، وأكثر من 63 عاماً من العمر) ليس خيانة. وهو لا يرقى الى ذلك النهب السافر للمال العام الذي يقوم به البعض علَناً، ودون خجلٍ أو خوفٍ من أحد، وفي الهواء غير الطَلِق.
عن ماذا يُدافعُ إذَنْ من لا يملُك في هذا البلد لا مالاً ولا بيتاً ولا شِبراً من أرضٍ في بلاد الله الواسعة ؟ عن ماذا يُدافعُ إذَنْ من لا يملكُ مصدر رزقٍ دائمٍ وكافٍ لهُ ولأسرته (ولأولادهِ الشباب "الخرّيجين" العاطلين عن العمل).. إنْ لم يُدافع عن راتبٍ تقاعديٍّ لا يملُك غيره ؟ هل في هذا الدفاع خطيئة ؟ وهل يجوزُ أنْ يُقدّم لي النُصْحَ في ذلك مَنْ يملُك ما لا أملكُ، ولا يعني لهُ راتبهُ شيئاً، سواء زادَ أو نَقُصَ، أمْ بقيَ أو زال ؟
هل عليّ، لكي أكونَ مُنصِفاً و مِهنيّاً و "وطنيّاً"، أنْ لا أعترِض على راتبِ تقاعديّ لا يكفي لدفع الايجار الشهريّ لبيتي ؟
و رغم ذلك.. هل تعتقدون أنّني سأحترمُ نفسي واختصاصي المهني والأكاديمي، دون أن اقفَ بثباتٍ مع ضرورة وجود "مرحلة انتقالية" يتم خلالها اتخاذ اجراءات وانتهاج سياسات مؤلمة، بهدف الانتقال الى وضعٍ أفضل ؟؟ ولكنّ من حقّي أيضاً ان اتساءلَ هنا: من الذي سينقلنا الى وضعٍ أفضل ممّا نحنُ فيه ؟؟؟ هل هم هؤلاء "الخبراء" و "القادة" و "الزعماء" ؟؟؟ هل بـ قوانين كهذه، ومن خلال سياسات عرجاء كهذه، يتمّ اصلاح كلّ هذا الخراب المتعدّد الأبعاد، وانقاذ اقتصادنا من افلاسٍ "ماليٍّ" وشيك ؟؟.
ومع ذلك.. فأنّ هناك (عدا رواتبنا التقاعدية "الفاحشة") التي "يُعيّروننا" بالدفاع عنها كـ "اقتصاديّين"، قضايا أخرى "اقتصاديّة" أدهى وأمَرّ:
هناكَ دولارٌ رخيص.
واستيرادٌ رخيص.
و مَزادُ عُملة.
وإغراقٌ، و قِلّة تشغيلٍ، و ضآلة تصنيعٍ، و غياب صَنْعَة.
ومعدل تضخّم 2% فقط لا غَير (في امريكا واوروبا 4%).
واستقرار "نقدي" والحمد لله.. الذي لا يُحمَدُ على مكروهٍ سواه.
و "رئاسات " و مناصب و حراسات وحمايات وسيّارات وقصور.. وما لا عين رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ من قبل.
و عددٌ هائلٌ من الموظفين الذين لا انتاجية لهم.
وادارةٌ غير كفوءةٍ للاقتصاد و تخصيص الموارد.
وفسادٌ وإفسادٌ وهدرٌ هائلٌ للمال العام.
كلّ هذه القضايا "خطوطٌ حُمْرٌ" لا يجوز الاقتراب منها، ولا لمسَها، ولا الدعوةُ الى تصحيح المسارات والتوجّهات الخاطئة فيها.
وحدها رواتب الموظفيّن و المتقاعدين هي المشكلةُ التي تنخرُ الأساس الماليّ للاقتصاد، وهي السبب الرئيس لاختلالاتهِ الهيكليّة المزمنة.
و كلّما أرادت الحكومة أن تستقطع من رواتب موظفّيها ومتقاعديها، أو تقوم بتقليصها.. قالتْ أنّ ذلك بهدف تأمين احتياجات مؤسسّاتنا الأمنية والعسكرية في حربها ضدّ الارهاب و داعش، و دفع رواتب ذوي الشهداء والمفقودين، و رفع مستوى معيشة الأرامل و الأيتام، و تمويل صندوق رعاية "أطفال الشوارع"، ودعم العاملين في القطاع الخاص، و تحقيق الاصلاح الاقتصادي والمالي، وارساء أسس الانصاف والعدالة بين جميع شرائح المجتمع العراقي، وترسيخ الاحساس بالمواطنة كهويّة جامعة (إي والله.. هكذا قال أحدهم).. وكلّ ذلك من أجل أن نُمَرّر، ونخاف، ونُوافِق، و نُنافِق، ونستحي.
وبشغف خبراءنا وسياسيّينا "الأفذاذ" بالرواتب فقط، فإنّنا لا نعالج الأسباب.. بل نحاول الالتفاف على النتائج. لا يهمنا الأجل الطويل بل الأجل القصير فقط. لا شأن لنا بالخطط والاستراتيجيات، بل بالإجراءات فقط. نحنُ شغوفون بالحلول السهلة لأنّنا عاجزون. وبالتالي فليس أسهل من الراتب عندما نريد أن نزيد من عوائدنا من الضرائب. وليس اسهل من الراتب عندما نريد تخفيض نفقاتنا الجارية. وليس اسهل من الراتب عندما نريد أن نحقّق الاصلاح الاقتصادي والمالي. وليس هناك ما هو اسهل من الراتب عندما نُريد أنْ نُنقِذ أنفُسنا واقتصادنا من افلاسٍ "ماليٍّ" وشيك. أمّا مشكلة الترهل الوظيفي، و وجود خمسة ملايين موظف بإنتاجية متدنيّة جداً (وأحياناً بدون انتاجية على الاطلاق).. فأتحدّاهم "بقضّهم وقضيضهم " أن يجدوا لها حلاّ. اتحدّاهم أن يجدوا حلاًّ للبطالة باشكالها وانواعها المتعددة، وما أقساها وأخطرها في بلادي.
والمفارقةُ الحزينةُ في هذا كُلّه، أنّهم هُم انفسهم مَنْ كانوا يحكموننا، وأولي أمرنا، ويديرون شؤوننا الماليّة والاقتصادية لسنين عديدة، عندما كان حجم موازناتنا العامة لا يقلّ عن 130 مليار دولار سنوياً.
فلماذا لا يُحاسبون أنفسهم، ولا يُحاسبهم أحد، عن "هدر" المال العام آنذاك؟
لماذا يمنّون علينا الآن.. ويُعيّروننا برواتبنا، وامتيازاتنا "الباذخة" الآن ؟؟.
لماذا لا يُلاحِقون الذين سَرَقوا في أيّام الوفرةِ، وبَدّدوا، و فَسَدوا.. و "أفْسَدونا".. و لايزالون يفعلون ذلكَ في أيّام الضيقِ والعُسرةِ، وأيّام "الصيهود" ؟؟.
بعضُ الصامتين لا يُريدُ انْ يُصدّقَ أنّ الراتب التقاعديّ هو "الثورُ الأبيضُ" الذي يؤكَلُ الآن. وماهي إلاّ أشهرٌ معدودات ويأتي دور "الثور الأسودِ"، ليتمّ "أكل" الراتب الوظيفيّ ايضاً. وليبدأ تفعيل اجراءات التقاعد "المُبَكّر"، وممارسة الكثير من الضغوط على "كبار السنّ" و "كبار العقول" أيضاً.
و أوّد التنويه فقط هنا، الى عدم مراعاة "دولتنا" العظيمة لقاعدة التوازن في التعامل مع "اصحاب المصلحة" عند قيامها بتشريع القوانين ذات الصلّة برواتبهم، ومستوى معيشتهم. وبأنّ "دولتنا" هذه لم تتحسّب أبداً لما يمكن أن يترتب على ذلك من تبعات. فليس من المقبول والمعقول و المنطقيّ أنْ يتقاضى الأستاذ الجامعيّ (مثلاً) راتباً بملايين الدنانير أثناء الخدمة، و راتباً تقاعدياً لا يزيد عن 800 الف دينار شهريّاً (كحدٍّ أعلى) عند احالتهِ على التقاعد. فـ [ "الدكتور" و"الأستاذ" الجامعي هو دكتور واستاذ جامعي عندما كان في الخدمة فقط. وعندما يُحال على التقاعد سيصبحُ "مواطناً عاديّاً" يتقاضى ما يتقاضاه أقرانهُ من "المواطنين العاديّين" من راتبِ تقاعديّ].. كما قال (نَصّاً) الأستاذ – المحامي – القاضي – السيّد طارق حرب في حوارٍ حول قانون التأمينات الاجتماعية المُقترح أجرتهُ معه قناة الفلّوجة الفضائيّة قبل أيام.
يا لهُ من اقتصاد.
يا لهم من اقتصاديّين.
يا لها من "دولة".
كانوا غارقين بفائض "الريع".. فأتخمونا بمكرماتهم السخيّة.
وعندما شحّ "الريع".. شَحّوا.
وعندما تعودُ أسعار النفط، وتقفزُ بـ "الزانةِ" من جديد.. ستهطلُ علينا أمطار "المكرمات" الريعيّة من جديد.
منذ فتحنا أعيننا على السلوك الاقتصادي لـ "دولتنا" العتيدة، وهي دولة "مكرمات" و "هِباتْ" و "هَبّاتْ" و "فَزْعاتْ"، وليست دولة " منظومات " و "سياسات " و "مؤسّسات ".
لقد عشنا ذلك وكنّا شهوداً عليه، منذ مكرمات "ثوراتنا" المُتعاقِبة "المجيدة".. الى مكرمة "الدجاجة" أيّام الحصار الأسود "الدوليّ" البغيض.. الى مكرمة قوانين الرواتب "الخاصّة" (منذ العام 2003وإلى زمننا الراهن هذا).. إلى جميع المَكْرَمات" الأخرى، على اختلاف مسميّاتها، واختلاف الفئات المشمولة بها.
إنّ دولةً كهذه، تتخبّطُ في قوانين خدمتها ورواتب موظّفيها، كلّما تخبّط بها موجُ الريع الخابط، و"خَبَطها خَبْطاً".. هي ليستْ "دولةً " فقط، بل هي من اكثر الدول عدالةً وانصافاً و "روعةً" في هذا العالم.