حجم النص
بقلم // مهدي الدهش مهما تكن الحياة فهي تجربة، ومهما تكن التجربة فهي فيض من فيوض الزمان، واستطراد متعدد الأشكال والألوان في اللامتناهي وقد تكون التجربة بسيطة كما هو الحال عند الأطفال أو عامة الناس، وقد تكون معقدة كما هو الحال بالنسبة للعالِم أو الشاعر أو الفنان أو المثقف المعرفي، وما بين هذه وتلك هي التجربة – ليست سوى مؤثر واستجابة للكائن الحي - كما يوصف في علم النفس. وهنا يهمني الحديث عن علاقة الفن بالتربية، واقصد بالتربية المعنى الأوسع لها بعيدا عن الأطر الضيقة التي يتوهم البعض منا ويضع التربية فيها وكأنها وعاء معلوم الأبعاد، وبالتالي علينا أن نتطرّق لتبيان بعض التعريفات الخاصة بمعنى الفن قبل الخوض في هذا الأمر. ومنها: أن الفن تعبير عن انفعال، وقيل:هو تعبير عما يثير الفنان (الإنسان) في العالم الخارجي، وهناك تعريف أكثر شمولا" وأوسع مضمونا": هو قدرة الفنان على نقل أفكاره أو مشاعره للجمهور بحيث يستطيع هذا الجمهور المتلقي أن يحس ويشعر بها ويعيشها ويكتسب التجربة التي لولا الفنان ما كان له أن يكتسبها. وشخصيا" أرى أن هذا التعبير هو الأقرب إلى إحساس الفن وما يعكسه من أنماط تربوية نتيجة انعكاس المعاني التي سعى الفنان لإيصالها للجمهور متلقي الفكرة سواء كانت هذه الفكرة شكلية المعنى (الفن التشكيلي) أو معنوية لغوية (الفنون الأدبية). وهناك تعاريف إجرائية أخرى منها: أن الفن هو الطبيعة من وجهة نظر الفنان، أو: هو الابتكار لأشياء جديدة غير معروفة من قبل، وأخيرا" قيل: إن الفن لغة الاتصال ولابد من تعلم رموزها كي نستطيع فهم المعاني المستترة خلفها (أي ما وراءها أو ما بين السطور). ومهما كان الاختلاف في تعريف وتحديد معنى الفن فمن الواضح انه (الحياة) وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ظاهره أو باطنه، فكما تعودنا إن للأشياء ظاهر وباطن أرى إن الفن أيضا يحمل نفس هذه الفكرة وبإطارها الاشمل. وان محاولة فصل الفن عن الحياة والتحدث عنه على انه شيء مفرد في ذاته يمارسه أشخاص متميزون بمواهب خاصة، هذا النوع من التفكير قد جعل من الفن قضيه أرستقراطية أبعدته كل البعد عن الحياة وجعلته في خانة (الأبراج العاجية)؛ كما يحلو له أن يسميها الدكتور علي الوردي في كتاباته. وكاْن الفن حكرا على طبقات معينه ضمن المجتمع يمارسونه ويفهمون لغته هم وحدهم، وأما من كان حاله كحال كاتب هذه السطور فله النظر والمشاهدة فقط دون السؤال حول الفن ومعانيه واثره وانعكاسه. أما اليوم فقد أصبح التذوق الفني هو جزء من حياة الإنسان اليومية، فنظره عامه للأسواق وما فيها من السلع المتنوعة في الأشكال والألوان قد جعل من الإنسان الحاضر فنانا بالفطرة ويتجلى ذلك في تنسيقه للأشياء سواء في منزله أم في محل عمله، فنراه يحاول وضع لمسات خاصه تنم عن رؤى فنيه إن صح التعبير. ولم تقف الأمور عند هذا الحد بل إن المصممين لجميع المنتجات الاستهلاكية منها أو الصناعية الإنتاجية أصبحوا يولون هذا الأمر اهتماما متزايدا ابتداء من القرن العشرين، من اجل أن تلائم أذواق المستهلكين وبمختلف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم الثقافية وانحداراتهم المعرفية. وعوده على العلاقة بين الفن والتربية نجد إن ألتربيه الفنية لها الدور الحاسم في بناء شخصية المواطن الذي يعيش وسط التحولات الاجتماعية المعاصرة، ولذلك لابد أن تتفاعل مع الأحداث وتأخذ بنصيب في دفع عجلة التطور إلى الأمام لتحقيق مجتمعا متزنا ومتجانسا في اقواله وافعاله ولا أثر للتناشُز أو الازدواجية في سلوكياته الخاصة والعامة والتي غالبا ما تنشئ بسبب ضعف أو غياب التربية الروحية (والفنية جزء منها). لقد قيل فيما سلف: أن ليس العالم موجودا لمجرد أن نتحدث عنه بل لكي نتأمله كذلك، ونحن لا نملك فقط ألسنه لنتحدث بها وآذانا لنسمع، ولكننا نمتلك عيونا لنرى ونبصر الأشياء من حولنا ونقومها إذا ما كانت غير ملائمة لواقع الذوق العام السائد ضمن المرحلة التي نعيش بها، وهذا جزء من العلاقة الجدلية بين الفن والفلسفة والتي يبدو للنظرة السطحية العابرة انه لا يوجد شخصان أكثر تباعدا وانفصالا عن بعضهما من الفنان والفيلسوف. فالفنان يهتم بالإثارات الحسية لجواهر الأشياء، ومتعة الشكل الظاهرة. أما الفيلسوف فمشغول بالنظر غير العاطفي في الموضوعات التي تترابط فيما بينها على أساس منطقي كما يهتم بالأفكار العامة ومن ثم المجردة. لكن على الرغم من أوجه الخلاف والتباعد القائمة بين الفن والفلسفة، فاْن ثمة أوجه للتشابه والتداخل فيما بينهما. حيث عندما يبتعد الفنان عن أن يكون مجرد صانع ماهر موهوب_ يصبح بفضل اختياره لموضوعاته وانتخابه لمواده وما ينتج عن عمله الفني من اثر كلي _ ناقدا للحياة وللوجود. وهو فيلسوف بحكم طريقته الخيالية المباشرة في تشخيص الواقع ونقده.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً