حجم النص
تقرير /د. المهندس المعماري رؤوف محمد علي الانصاري تُعد الأسواق القديمة في مدينة كربلاء المقدسة أحد أهم الآثار التاريخية التي تدل على مدى عراقة هذه المدينة من ناحية، ومدى حيويتها وفاعليتها التجارية على مرّ العصور الإسلامية من ناحية أخرى. وتذكر المصادر التاريخية أن نـشـأة الأسواق التراثيـة في هذه المدينة المقدسة تعود إلى بداية القرن الثالث الهجري، وبالتحديد في زمن الخليفة العباسي المأمون. وتُشير تلك المصادر إلى أن أسواق كربلاء كانت في تلك الفترة عامرة تسودها الطمأنينة وتؤمها القوافل. وكان من الزائرين مَن يؤثر البقاء عند مرقد الإمام الحسين(ع)، ومَنهم من يعود إلى بلده. وذلك قبل أن يأمر الخليفة العباسي المتوكل بهدم البناء الذي كان يعلو القبر والمباني التي حوله سنة 236هـ (850م) لمنع الزائرين من التوجه لزيارة قبر الامام الحسين (ع). وفي العهد البويهي انتشرت الأسواق بين المرقدين وذلك بعد أن قام عضد الدولة بـإعادة بناء مرقد الإمـام الحسين (ع) بين سنتي 369 – 371هـ (980 – 982م)، وبناء مرقد العباس (ع) لأول مرة سنة 372هـ (983م)، وتشييد بيوت وأسواق جديدة في المدينة. واشتهرت مدينة كربلاء بأسواقها التاريخية العريقة التي تؤلف بمجموعها وحدة من وحدات المنشأة الاجتماعية. فهي ترتبط عضوياً بالمراقد المقدسة وتحيط بها. وقسم منها يمتد أمام مداخلها بحيث لا يمكن إلا المرور من خلالها، مجسداً الترابط بين الجانبين المادي والروحي في حياة سكان المدينة والزائرين. وكانت بعض الأسواق ممراً للمواكب الحسينية أثناء إقامة الشعائر في المناسبات الدينية وكذلك لمرور المواكب الجنائزية. وتوجد إلى جانب الأسواق التراثية الرئيسية أسواق تقليدية أخرى تعتبر محاور تجارية جانبية ترتبط بالأسواق الرئيسية من جهة، وبالمناطق السكنية من جهة أخرى. وأشار الكثير من الرحالة والمستشرقين إلى أسواق مدينة كربلاء. وقال الرحالة البرتغالي بيدرو تكسيرا في وصفه لأسواق المدينة عند زيارته لها عام 1013هـ (1604م): « بسبب توافد الزوار وتقاطرهم على المدينة من كل حدب وصوب في مواسم معلومة من السنة أن تنشط فيها حركة البيع والشراء بحيث تحتوي المدينة على جميع المواد الضرورية والبضائع التجارية من بلدان أخرى وعلى أصناف من بضائع محلية والتي تميز الكثير منها بخصائص ومميزات دينية غنية بمواضيع من التقاليد الإسلامية، ولهذا فإن مدينة كربلاء كانت ملتقى لعددٍ كبير من التجار القادمين من مختلف الأقطار ». وأشار تكسيرا أيضاً إلى عمارة أسواق كربلاء وقال: إنها مشيدة على شكل عقود من الطابوق (الآجر) والجص باحكام. وجاء في كتاب (Iraq and the Persian Gulf): إن الصف الواسع من الدكاكين والذي يقع في المنطقة المحصورة بين المرقدين في مدينة كربلاء، وكان سابقاً سوقاً مسقـفـا ً، يشكل الآن السوق الرئيسي الذي يفصل المدينة من شمالها إلى جنوبها. وعند زيـارة الرحالـة الإنكليزية مس ستيفنس كربلاء سنة 1337هـ (1919م)، تحدثت عن أسواق كربلاء فذكرت سوقاً مسقفاً يبتاع منها الناس سلعهم وتكلمت عن أسواقها الشعبية فقالت: « أنها مليئة بالخضروات والفواكه وأنواع التمور إلى جانب اللوز والجوز ». وقد تخصـصـت الأسـواق في مدينة كربلاء، حيث أن كل سوق من الأسواق، أو أن جزءاً منها، كان يختص بـبضـاعة معينة. أن هذا التخصص والتنوع يعتبر مظهراً بديعاً من مظاهر الأسواق الإسلامية. والأسواق في مدينة كربلاء هي متاحف شعبية إسلامية قل أن نجد لها مثيلاً في كثير من أسواق المدن الأخرى. وكانت هناك داخل الأسواق وفي محاذاتها، الكثير من البيوت التراثية الجميلة والمراقد الصغيرة والقيساريات والخانات التي كانت تعتبر من الأماكن التراثية في هذه المدينة. وتعتبر الأسواق من المعالم العمرانية المهمة في المدينة وأحد مستلزماتها الضرورية، وأن عناصرها المميزة وتطورها وتكاملها العمراني هي أحد الروافد المساهمة في تطور المدينة. ولعبت الأسواق التراثية دوراً كبيراً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أحياناً. إذ أن السوق لا يعمل كشريان للحياة الاقتصادية فحسب، وإنما للحياة الاجتماعية العامة للمدينة. فهو إلى جانب المسجد، يعتبر المكان الذي تحتك فيه القطاعات المختلفة من المجتمع الحضري مع بعضها. كما أن للأسواق دوراً في تكامل المدينة وترابطها مع مجاوراتها بفعل تبادل السلع والخدمات مع سكان المناطق القروية والريفية المحيطة بالمدينة. والأسواق في مدينة كربلاء، والمدن العراقية عموماً، أنشئت ضمن تخطيط المدينة، فجاءت بحلول موفقة للمشاكل العمرانية والسكنية القائمة آنذاك. وهي لا تختلف من ناحيـة طراز عمارتها عن الأسـواق في المدن العربـيـة والإسلامية. إذ فرضت طبيعة المناخ السائد في تلك المدن نمطاً معيناً من الأسواق، فهي ضيقة وشبه مستقيمة، وفي أكثر الأحيان تقوم على طرفيها الدكاكين المختلفة وغالباً ما تكون ممراتها مسقوفة للوقاية من الأمطار وأشعة الشمس والرياح. ولوحظ عند بناء الأسواق التراثية وملحقاتها، كالقيسريات، معالجة أمور أساسية كتوفير الإضاءة الكافية بأقل حرارة ممكنة وضمان حركة الهواء داخل الأسواق، وكذلك توفير حرية الحركة للمشاة ولوسائط النقل المستعملة آنذاك. إن الأسواق التراثية في مدينة كربلاء كانت تتسم ببساطة معالجاتها المعمارية، خصوصاً أطواقها وسقوفها الآجرية المعقودة بأحكام، وكذلك معالجة واجهاتها الخارجية، والتركيز على إغناء المعالجات المعمارية الداخلية. ونتيجة لعدم الاهتمام بالأسواق التراثية وعدم صيانتها وترميمها، فقدت الكثير من مقوماتها الإنشائية والجمالية التي كانت تتميز بها، خصوصاً سقوفها الآجرية المعقودة التي استبدلت بسقوف من جسور الخشب تغطيها صفائح معدنية. ومنذ السبعينات من القرن الماضي، وبسبب فتح شوارع جديدة والهدم الذي طال مركز المدينة، أزيلت العديد من الأسواق التاريخية القديمة ومنها سوق التجار، سوق الحسين، سوق العباس، سوق باب القبلة وغيرها. وما زالت هناك بعض الأسواق الرئيسية القديمة موجودة في مدينة كربلاء على الرغم من أن بعضها فقد أصالته التراثية وخاصة السقوف نتيجة الترميمات غير المدروسة من الناحية المعمارية كسوق العرب، وسوق الميدان، وسوق المخيم، وسوق باب السلالمة. أما بالنسبة إلى سوق التجار وسـوق العباس وسـوق الحسين، فإنها من تشيـيـد عضد الدولة البويهي سنة 369هـ (980م) إذ أنشأها عندما قام بإنشاء الصحن الصغير الملحق بصحن الروضة الحسينية، فشيّد سوقاً بدأ من باب الصحن الصغير إلى جهة الشمال وفي وسطه تفرع إلى جهة الشرق ليصل إلى الباب الغربي من صحن سـيـدنـا العباس (ع). ويُعد هذا السوق من أقدم الأسواق التي شيّدت في كربلاء، والتي كانت ما تزال باقية إلى تم تهديمها من قبل النظام السابق. وقد شُيّد هذا السوق من ثلاثة طوابق، حيث تعرض لعدة أحداث أولها سنة 858هـ (1454م) على يد المشعشعين وكان يعرف بسوق سيد الشهداء، وسوق ما بين الحرمين كما كان يطلق على سوق التجار، بسوق العجم، لأنه من تشييد ملك العجم عضد الدولة البويهي. وفي العهد الملكي، وفي حدود سنة 1354هـ (1935م)، قسم السوق إلى قسمين بسبب فتح شارع الإمام علي والذي كان يسمى بشارع فيصل. فسمي القسم الغربي من الشارع بسوق التجار، كما سمي القسم الأول منه المتجه نحو الشمال بسوق الحسين. وكانت تنحصر في سوق التجار مهنة بيع الأقمشة بأنواعها المختلفة، وقد هدم جزء منه سنة 1978م، أما الجزء الآخر منه فقد هدم من قبل السلطات الحكومية بعد انتفاضة آذار سنة 1991م. أما سوق العباس ويسمى ايضاً بسوق الصاغة، فكانت تنتشر فيه محلات صياغة وبيع الذهب والفضة. وأما موقعه فهو على امتداد سوق التجار، ويفصل بينهما شارع الإمام علي، وقد هدم أيضاً سنة 1991م. ويمتد سوق الحسين، من أمام باب الكرامة، أحد أبواب الروضة الحسينية، وينتهي بشارع صاحب الزمان، ويتقاطع مع سوق التجار. وتنتشر في هذا السوق عند بدايته محلات بيع الكماليات. أما في منتصفه ونهايته فتتوزع فيه القيساريات والمحلات التي تباع فيها البضائع بأنواعها المختلفة، وقد هدم هذا السوق أيضاً سنة 1991م. وأما بالنسبة إلى أسواق العرب والميدان والعلاوي، فقد شيّدت في العهد العثماني وفي حدود سنة 1052هـ (1642م)، عندما تولى أحمد آغا إدارة المدينة وشيد مبنى البلدية (قراة خانة) في موقع الميدان القديم. وقد حاول أن يحيط مبنى البلدية بشبكة من الأسواق. منها باتجاه الشرق، السوق الذي سمي فيما بعد بالعلاوي والذي ينتهي بشارع الصفارين. ومن جهة الشمال بالسوق الذي سمي فيما بعد بسوق الميدان والذي كان يتفرع إلى فرعين يصل أحداهما إلى باب الصحن الحسيني والذي سُمي بعد فتح شارع الإمام علي بسوق العرب. ومن الجهة الثانية كان ينتهي إلى ساحة علي الأكبر ماراً بزقاق شير فضة والذي كان يُسمى بسوق الصفارين. وتنحصر في سوق العرب مهنة بيع الأقمشة. وقد سُمي بهذا الاسم لأنه كان قائماً على الأعراب (البدو الرحل) الذين يأتون من البادية لشراء ما يحتاجونه من الأقمشة والملابس، وما زال قسم من هذا السوق قائماً إلى يومنا هذا. أما سوق الميدان فيشتهر ببيع الفواكه والخضروات واللحوم وغيرها. ويشتهر سوق العلاوي ببيع الرز والحبوب والطحين. أما سوق النعلجية فقد شيّد في العهد العثماني، وموقعه موازٍٍ لسوق العرب وينتهي أيضاً عند شارع الإمام علي، وهو من الأسواق الشعبية، ويختص بصناعة وبيع الأحذية والنعل لذلك سُمي بهذا الاسم. وهناك أسـواق قديمة أخرى في المدينة، قسم منهـا مـا زال في موقعه القديم. أمـا القسم الآخر فقد تغير موقعه نتيجة هدم مواقعها القديمة. ومن هذه الأسواق سوق السراجين، سوق الخياطين، وسوق النجارين، وسوق الحياك، وسوق باب السلالمة، وسوق المخيم، سوق باب الخان، وسوق الصفارين وغيرها من الأسواق. القيساريات جاءت كلمة قيسارية مفردة (قيساريات) من الرومان الذين كانوا يحكمون شمال أفريقيا. إذ كان يوجد في كل مدينة تقريباً سوق كبير أطلق عليه اسم قيسارية (تحريف قيصرية) نسبة إلى قيصر. والقيسارية عبارة عن مبنى ذي حوانيت يقع في مراكز المدن استعمله الرومان لبيع السلع التي كانوا يتقاضونها من التجار كضرائب. وتذكر بعض المصـادر التاريخية أن الملوك والقياصرة الروس شيدوا أماكن تجارية على شكل مجمعات في بلادهم وبلاد ما وراء النهر عرف بعضها بالقيصريـات. ولقوة الروابط التجارية والتبادل السلعي بين العراق وهذه البلدان ظهرت مثل هذه المجمعات فيه، وقد حرفت في العراق إلى « قيساريات ». وكانت مدينة كربلاء تضم الكثير من القيساريات الموزعة داخل بعض الأسواق الرئيسية في مركز المدينة لاسيما في سوق الحسين، وهي مبان تراثية شبيهة بالخانات من ناحية التخطيط المعماري ولكنها تختلف عنها في وظائفها. وتعتبر القيـسـاريـات من المباني المهمة في المدينة العراقيـة وأحد مستـلـزمـاتها الضرورية. وهي من الروافد المساهمة في تطور المدينة من الناحيـة الاقتصاديـة إذ تـزود المحلات التجاريـة بـبعض البضائع المحليـة والمستوردة. والقيساريات في مدينة كربلاء والمدن العراقية الأخرى عبارة عن مبانٍ مستطيلة أو مربعة الشكل. وتشغل عادةً الأماكن الواقعة خلف المحلات التجارية في الأسواق التراثية الرئيسية. وتتألف في أكثر الأحيان من طابقين: الأرضي: ويحتوي على ساحة داخلية واسعة يعلوها سقف يغطي الطابق الأول وتحيط بها الحوانيت (المحلات التجاريـة) التي هي عـبـارة عن مجموعة من الأسواق المتخصصة حسب المهن والبضائع التجارية المعروضة، ومفتوحة على الساحة الداخلية، وأحياناً تعلو واجهات الحوانيت عقود (أقواس) مدببة أو دائرية الشكل مبنية من الطابوق (الآجر) والجص. أما الطابق الأول: فيحتوي على غرف هي عبارة عن مكاتب تجارية ومخازن أو ورش عمل لبعض الصناعات التقليدية الشعبية كالأحذية والخياطة وتجليد الكتب، ويتقدم هذه الغرف ممر يطل على السـاحة الداخليـة في الطابق الأرضي. وقسم آخر من القيـسـاريـات يتألف من طابق أرضي فقط ويعود إلى شخص واحد، وتحتوي أجنحته على بضائع متنوعة. أما مداخل القيساريات فتفتح مباشرة على الأسواق تتقدمها أبواب خشبية متينة تغلق أثناء الليل. واستعملت في بناء القيسـاريـات مواد البناء المحلية كالطابوق (الآجر) والجص، تعلوها السقوف الآجريـة المعقودة بطريقة الأقبية وقسم منها مسقوف بواسطة جسور خشبية تغطيها صفائح معدنية. ويتم توفير الإضاءة والتهوية داخل هذه القيـسـاريـات بواسطة فتحات تحيط بجوانب السقف وكذلك من مداخلها الرئيسية. وقد أزيل الكثير من القيساريات نتيجة عدم صيانتها وترميمها والهدم الذي طال مركز المدينة في عهد النظام السابق. أما أهم القيساريات التي عرفت في مدينة كربلاء فهي: الأخبارية، أبو معاش، رضا الصحاف، الحاج علي الوكيل، الحاج كاظم، الحاج مهدي العطار، حسن نصر الله، الحاج حسون طابور غاسي، شيخ الشريعة، حسان شعيب وغيرها من القيساريات./ وكالة نون خاص
أقرأ ايضاً
- "بحر النجف" يحتضر.. قلة الأمطار وغياب الآبار التدفقية يحاصرانه (صور)
- انتخاب المشهداني "أحرجه".. هل ينفذ السوداني التعديل الوزاري؟
- فاطمة عند الامام الحسين :حاصرتها الامراض والصواريخ والقنابل.. العتبة الحسينية تتبنى علاج الطفلة اللبنانية العليلة "فاطمة "