مثلما اجتاحت الفوضى الخلاقة جميع تفاصيل المشهد العراقي بعد التغيير النيساني 2003 فان المشهد الاعلامي العراقي لم يكن بعيد عن هذا المد الذي يجتاح أي مشهد مؤهل للتغيير الشامل وبعد فترة طويلة من \"السبات\" الديكتاتوري وتجسدت تلك الفوضى بالفلتان الإعلامي الذي ساد من خلال إصدارات لاعد لها ولا حصر الى درجة قيام شخص واحد فقط بإعداد وتحرير وإصدار وتسويق \"مطبوع\" في حين ان أي مطبوع وضمن القياسات والسياقات الإعلامية المهنية يحتاج الى كادر متخصص تقع على كاهله جميع المفردات العملية التي بموجبها يتم إصدار المطبوع بشكله الصحيح فضلا عن إيجاد آليات التسويق التجاري وضمن مقاربات الجدوى الاقتصادية ...
وينطبق هذا الحال على جميع وسائل الإعلام خاصة القنوات الفضائية والمحطات الأرضية وموجات الراديو العاملة لتشمل الفوضى الإعلامية الخلاقة جميع وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة يضاف إلى ذلك الصحافة الالكترونية حديثة العهد، ولأسباب شتى منها الانتقال المباشر بين عهدين متناقضين تماما ؛ عهد الديكتاتورية العسكريتارية والاستبداد الشمولي والعهد الثاني هو عهد العبور المفاجئ إلى الديمقراطية والحرية والتداول السلمي للسلطة ، إضافة الى ذلك عدم وجود قانون ينظم آليات العمل الإعلامي والصحفي كما هو معمول به في اغلب دول العالم خاصة الدول المتحضرة وعدم وجود مؤسسة رسمية متهيكلة تحتضن جميع الفعاليات الإعلامية وتحمي الصحفيين وتضمن لهم حقوقهم وتنظم حرية وآداب النشر وبحسب المعايير المهنية المتعارف عليها كي لا يتحول الميدان الإعلامي إلى دكاكين وحبال لنشر الغسيل وسوح للمهاترات او حواضن للتهريج والتهييج السياسي والطائفي ومنابر للتسقيط والتحريض والإساءة الى الذوق العام بحجة المناخ الديمقراطي الذي صار من حق الجميع ان يستمتعوا به وكيفما وأنىّ يشاؤون ..
ان السلبيات التي طرأت على الفعاليات المجتمعية والسياسية ضمن أجواء الديمقراطية التي أسيء فهمها وهضمها وتطبيقها نتيجة لقلة الوعي المجتمعي بها ولحداثة التجربة الشعبية بالممارسات الديمقراطية ، لحقت بالفعاليات الإعلامية التي انجرفت هي الأخرى في هذا التيار وهذا شيء طبيعي جدا لأية مرحلة انتقالية ولكن في أمد زمني محدود ينتهي بزوال أسباب الفوضى والعشوائية ودخول جميع الفعاليات ومنها الإعلامية مرحلة التنظيم والتقنين والنضوج وضمن القوانين التي تسنها المؤسسة التشريعية لتحظى بالقبول العام ولا تتجاوز الخطوط السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية العامة وبعيدا عن التخندقات التي لا تصب في المصلحة الوطنية العامة...
انه من الطبيعي لأية جهة مهما كانت وضمن السياقات الديمقراطية المبرمجة وليست العشوائية التي تعبر عن هوس فوضوي ونزعة غوغائية، ان تمارس دورها في اية فعالية يمليها منطق القانون المشرع وفي دولة القانون والمؤسسات الدستورية وبحرية مسؤولة وتحت قبة البرلمان وينفذ بميكانيكية تكنوقراطية شفافة ومنها الفعاليات الإعلامية التي يجب أن لا تكون عشوائية التوجه او مؤدلجة المضامين بحسب الجهات التي تصدرها او تطلقها وضد السياق المجتمعي او الأخلاقي او السياسي العام لان إثارة الحساسيات الطائفية والقومية والعرقية وتتبع مثالب الأداء الحكومي من اجل تحريض الرأي العام على الحكومة بهدف إشاعة الفوضى في الشارع تحقيقا لأجندات سياسية مشبوهة وبمضامين مغرضة بعيدة كل البعد عن المهنية الإعلامية ولا يعد من دواعي الحرية التي كفلها الدستور لجميع المواطنين ...
كما ان تبني بعض الجهات الإعلامية التوجه الفئوي والتسقيطي المشاغب وتبني فلسفة الجهة التي \"تمولها\" وتحاول فرض سياستها على ذوق وعقل وقناعات المواطن وتشكيكه بالاداء الحكومي سيما في وقت الأزمات والمراحل العصيبة التي تتطلب توافق وطنيا لا يعد ذلك طقسا من طقوس الحرية الفاعلة بل فصل من فصول الفوضى الخلاقة المبرمجة لتسقيط التجربة الديمقراطية الوليدة في عراق مابعد عصر الديناصورات الديكتاتورية المتحجرة .
اعلامي وكاتب