- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
تحولات الوعي السياسي للشارع العراقي
في التجربة العراقية الجديدة هناك جملة من التغييرات التي طرأت على المشهد السياسي، وهذه التغييرات كانت في أغلبها خارج حدود فهم المواطن. ولو نظرنا إلى تفرد تجربة العراق، في محيطه العربي والإسلامي، سنجد أن هذه التجربة لا يمكن لأي مواطن عراقي أن يتصدى لها بفهم مرحلي تزامني، فضلاً عن الفهم البعيد. فمن الناحية التاريخية نجد أن التجربة البرلمانية بالذات هي تجربة جديدة على مدارك المواطن. أقصد أن المجتمع العراقي منذ عام 1958 لم يحكم بتجربة برلمانية، فهو بالضرورة - بناءً على هذه النتيجة- سيفشل في فهم مزاعم الإدارة وتجلياتها المرافقة لهذه السياسة.
إذا عدنا لأقرب تجربة برلمانية عاشها العراقي فإننا سنتذكر المجلس الوطني الذي أسسه النظام الدكتاتوري السابق. ففي هذا المجلس أقيمت إدارة محلية لمحافظات العراق كانت أهدافها الإدارية غير واضحة المعالم عند أبناء العراق ككل. ولكننا ومع ذلك لا يمكننا أن نجزم بأن أحداً من العراقيين أسهم بدافع سياسي في انتخاب نائب دون آخر. إذن فإن المبدأ السياسي معلق هنا والإدارة كذلك، والتجربة بعمومها لم تضف شيئا ًلوعي المواطن العراقي سياسياً، سواء على صعيد المرشح أو المُرشِّح. إن الظاهرة البرلمانية العراقية هي ظاهرة جديدة على وعي المواطن، وهذا الأمر يستدعي منا الوقوف والتأمل ملياً بما يجري على وعي هذا المواطن. وعلى أية حال فإننا من الممكن أن نقف ونسأل هل المواطن على دراية بأهمية أو عدم أهمية ما يجري في النظام الداخلي العراقي؟ أظن أن الجواب سيكون (كلا)، والسبب هو ببساطة أن المواطن يرى حركة السياسة من مستوى ما يقدم له من خدمات، ولا يمكنه بأية حال من الأحوال أن ينظر خارج ذلك. وإذا أعدنا السؤال ثانية، هل وعي المواطن بالنظام الإداري سيقترن فعلاً في ظهوره بتمام الوضع الخدمي وكماله؟ وأظن أننا أجبنا على هذا السؤال، سنجازف ببعض المفاهيم على حساب مفاهيم أخرى ربما تبرر القاعدة السياسية التي وضعت واستقرت في العراق.
وتاريخياً عندما نبدأ بالتجربة البرلمانية العراقية الجديدة، ومنذ نشأة مجلس الحكم، لا نرى أن المواطن العراقي كان يفهم هذا الإجراء على مستوى التعامل الإدراكي العام. أي أنه لا يفهم لماذا هذا التشكيل العددي ولا أظنه يفكر بمن سيمثله من طائفته. فمن الجانب الشيعي كان هم الناس أن يفرحوا بالتغيير الحقيقي أو الخروج من الزنزانة، وهو أقرب مدرك حسي عاشه العراقي المظلوم في أيام التحول الجديد آنذاك. بقي هذا الهاجس يرافق كثيراً من المواطنين. ولم يعبأ أحد أو يفكر أن التجربة التي ستصاغ هي تجربة تقع خارج إرادته. وأشدد على هذه الكلمة، فالتفاف الشيعة حول الفكر الديني جعله يطمئن إلى صحة وصدق ما يجري. وحين أعلن عن نظام إدارة الدولة، جعل المواطن ينظر إلى مرجعيته ماذا تقول، وحين أصدر مكتب سماحة المرجع الديني آية الله على السستاني قراره بمناوأة هذه المشروع خرجت الجماهير آلافاً مؤلفة إلى ملعب الشعب. وهم في الأغلب لا يعرفون ما تضمه فقرات هذا القانون، وما يهمني هنا أن أؤكد فقط على أنهم لا يعرفون أين الخلل في هذا القانون، سوى أن مرجعيتهم لا توافق عليه، فإذن على الناس أن يحتجوا عليه.
أرى أن تصحيح مسار إدارة النظام السياسي غير مقترنة بملاحظات المعارضة السياسية التي يشكلها أرباب الحرفة الثقافية، بل هي في الغالب تقع في دائرة الفرض السياسي والقبول السياسي، لظاهرة معينة، وجهة الرفض والقبول مقترنة بفئة متصدرة لصياغة القرار السياسي. علينا أن نجزم أن هذه الفئة في الوقت الحاضر بعيدة كل البعد عن تشكيل وعي سياسي للمواطن العراقي.
من المفارقات الجديدة التي طرأت على الساحة السياسية العراقية ظهور بوادر لوعي جماهيري معين، وبزاوية معينة. هذه البوادر جعلت فرصة اقتراب المواطن من مسألة الإدارة السياسية أكثر من ذي قبل. لقد تمثلت هذه البوادر بشكل واضح في تجربة انتخابات المجلس المحلي لمحافظة كربلاء. فنسبة الاصوات التي كان من المؤمل أن يحصل عليها (المرشح المستقل يوسف الحبوبي) كانت في الارتفاع، لولا ما أدركه أناس كثير أن هذه الأصوات ضائعة فقرر معظمهم العدول عن انتخابه نتيجة هذا الدافع. سنقف على معالجة هذه الظاهرة، ولكن قبل ذلك علينا أن نفهم أن هذه البادرة هي بادرة وعي بالإدارة السياسية. أي أن المواطن بدأ يفهم آليات نظرية من المقررات السياسية ويحولها إلى آلة عملية يستعملها في التصويت.
وإذا فتشنا في هذا الوعي الجديد سنجد أن دوافع الوعي مازالت قاصرة عن بلوغ غايتها، وهذا يصب بالتأكيد في مصلحة القوى المتصارعة في السلطة. ويمكننا أن نرصد من هذا القصور أمورا عديدة منها: إن المواطن في غياب تام عن ظاهرة الاستحقاق الانتخابي، وإلا لما فات على كثير من الناس أن (النصف + 1) هي آلية معينة لكسب المناصب العليا في المحافظة. ومنها أيضاً أن الاستحقاقات العددية هي سلاح ذو حدين، فانتخابات كربلاء جرت في ظل فهم المواطن لسياسة إدارة من رجل واحد، وهذه الظاهرة تظهر مدى عجز السياسة الإدارية في إقناع المواطن بأمرين: الأول تخليه عن فكرة البطل الإداري النموذجي المترسخ ربما من أيام الزعيم عبد الكريم قاسم، والثاني فشلها في إقناع هذا المواطن، بأن الإدارة يجب أن تكون جماعية وتؤلف من النسبة العددية.
ولو تركنا الأمر الأول ونظرنا بالأمر الثاني سنجد أن المواطن ليس على خطأ كبير بما يذهب إليه، والدليل على أن التكافؤ في مثل هذا المجلس لا يمكنه أن يضع حدوداً سياسية واضحة لبرنامج أمده شهر واحد ناهيك عن أربع سنوات مقبلة، وأيضاً ستضيع فرصة إظهار المهارة الإدارية في عجلة المداولات العقيمة التي تؤخر فعل القرار الإداري. بمعنى أن الفصل التشريعي لهذه القوانين سيطول ويقصر الأمر التنفيذي، وهذا الأمر لمسه المواطن ولكن يصعب عليه أن يحدده بدقة.
أظن أن المواطن العراقي بدأ يتفهم أن السياسة البرلمانية العراقية لم تخلق جواً سياسياً لإدارة دولة، بل جعلت من العراق تجمعاً عشائرياً مفككاً لا ينطبق عليه مفهوم الدولة. واظن أن المستقبل القريب سيشهد مطالبة العراقيين بوضع قانون جديد ينص على إدارة سياسية رئاسية وليست برلمانية
أقرأ ايضاً
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- الأطر القانونية لعمل الأجنبي في القانون العراقي
- الوعي الوقائي