ها هي قافلة الزمن تسير بنا نحو قصر عاشوراء المشيد الذي بناه الحسين (ع) وأنصاره بدمائهم الشريفة لتطل كربلاء العزة من إحدى شرفه تستوقفنا المسير، وتدعو المارة وأنصار العاشر من المحرم للنزول في بناء الحسين (ع) الكبير، لنتحاكى وليلنا المظلم، كيف نبايع الحسين (ع) بيعة ليست كبيعة أهل الكوفة، بل بيعة حبيب بن مظاهر الأسدي وبيعة برير وزهير والحر، ونتجالس حول طاولة الذكريات ونستذكر قيم الحسين وشموخ الحسين وإباء الحسين، الذي هو راية الحق وصوته المدوي على مر الأزمان لينادي ''هل من ناصرٍ ينصرنا، هل من دابٍ يدب عن حرم رسول الله''.
جلستُ وكربلاء، نتحدث عن إحياء غريب بدأ من عصر العاشر حتى يومنا هذا، وهو البكاء على الحسين(ع)، مفتتحاً تساؤلاتي عن هدف تجديد المصيبة نفسها كل عام. فأجابت وقد اغرورقت عيناها: إن تجديد حديثنا عن كربلاء هو تجديد للإسلام، إذ أن الحسين(ع) مثّلَ الإسلام في تحركاته وقيمه واهتماماته. ألم تسمعه يقول:'' إني ما خرجت أشراً ولا بطراً ولكن خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله(ص)''، وقال:'' لآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر''، ألا تعلم أن معسكر الحسين كان له دويٌ ليلة العاشر من المحرم كدوي النحل، فهذا يصلي وهذا يقرأ القرآن. ألم تسمع كيف صلّى الحسين(ع) في يوم العاشر والعدو يرشقهم بالسهام لايبالون، فأي إسلام لهؤلءا القوم إذا كانوا يدّعونه؟!! أليس في إحياء وتذكر تلك المواقف إحياء للدين كله. ناهيك إن تجديد الذكرى تجديد للولاء والمحبة لأولي القربى الذين نزل فيهم: ''قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى''، وبالتالي سرنا على درب القرآن القويم ونزلنا تحت دعوة خاتم النبيين(ص) ونصرنا في زماننا عِدْل القرآن، العترة الطاهرة، والحسين الشهيد(ع).
وسألتها: ألا يعد تكرار المصاب حدثاً مملاً كل عام؟ أجابت بعد زفرة وأنّة تقطِّع القلب: إن المصيبة يا بني لا تطفأ جذوتها في قلب المحبين ولا يسأم منها العاشقون وهي من أعظم رزايا أهل البيت ومن عُظمِ فجيعتها وما حدث فيها تظل باقية حتى لو تأخرت عاشوراء في المسير عنا وهي تتجدد كل عام وكأنك لم تسمعها من قبل، وتتفاعل معها في كل حين كما لو لم يكن هناك تفاعلٌ قد سبق، وهذا من أسرار الطف. فهيهات هيهات أن ننسى الحسين (ع) وأنصاره الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (ع). كما أن المتشدقين بهذا الرأي لم يعيشوا عاشوراء، لذا فهم لا يعرفون صولاتها في قلوب العاشقين ولا حرارتها في قلب الثائرين.
فأثارتني دمعاتها وأناتها الطوال فبادرتها بالسؤال عن فائدة البكاء عن ما مضى وفات، وكأنني استفززتها بهذا السؤال، فردت بغضب والحماس ينطلق من أطرافها: ألم يبكه رسول الله (ص) عند ولادته. إعلم يرحمك الله إنها دموع ألم وحسرة على المقتول عطشاناً بجانب الماء، على جسد ما سلم من السلب والنهب، على الأضراس المكسورة والإصبع المبتور والصدر المرضوض، وعلى خيام احترقت، وبدور خُسِفَت، وجثث قُطِعَت ودماء تناثرت وعيال تشردت. لقد قُتِلَ الحسين (ع) شر قتلة، تعكس الجاهلية التي تعيشها بني أمية. هل تعلم أن المصطفى(ص) نهى عن المُثلة ولو بالكلب العقور، لكن عبّاد الدنيا مثّلوا بجسد الحسين (ع) وما رعوا حرمة المصطفى، بل قتلوا إمام زمانهم ورفعوا رأسه فوق الرمح، ولم يعتبروا عندما سمعوا الرأس يتلو الكتاب، ألم تسمع الشاعر يقول:
«يتلو الكتاب على السنان وإنما رفعوا به فوق السنان كتاباً»
إنها دموع تأسف عن العجز لنصرة سيد الشهداء، ودموع محبة وولاء تجاه من قدم نفسه قرباناً للدين وحمايتنا من نار جهنم، ليصلح ما فسد من الدين، فلولاه لانهار صرح الإسلام ولوصلتنا الجاهلية العمياء، ولغمرتنا نيران جهنم وعشنا في جهل الدنيا وجحيم الآخرة أذلاء، فالقليل نقدمه لهذا البطل الفذ هو البكاء عليه وما ذكره عند العطش إلا عرفاناً منا بالجميل وتخليداً لسيد شباب أهل الجنة، إذ يقول (ع): ''شيعتي مهما شربتم عذب ماءٍ فاذكروني''.
ومن الجانب الآخر، فإن هذه الدموع تطفأ الذنوب ولو كانت - الدموع- بحجم رفرفة جناح ذبابة. وهل تعتقد إننا نبكيه لحصد الثواب فقط؟ فلو جلست واستمعت وتمعّنت بمصرع هؤلاء الفتية من بني هاشم وحاولت حبس دموعك لانطلقت من مقلتك تنهمر، فكيف إذا أطلقت لها العنان. يقول الشاعر:
تبكيــك عيني لا لأجلِ مثوبةٍ لكنما عيني لأجلك باكية
تبتل منكم كربلاء بــدمٍ ولا تبتل مني بالدموع الجارية
لقد بكاه جده رسول الله (ص) وبكاه أبويه أمير المؤمنين (ع) وبكته أمه الزهراء (ع)، ولا تريدنا أن نبكي مصابه.
أقنعتني بأجوبتها وتداركني الوقت، فحزمت أغراضي عن طاولة المحاورة على أمل الرجوع إلى هذه التحفة الثقافية والدينية والإنسانية التي تبني عزاً وفخراً يدوم مادام الزمان، والسلام.