- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
محمد زمان : العصامي الأروع وعرّاب الادباء في كربلاء إبان الثمانينيات
اذا لم تخني حافظتي فإن جاستون باشلار (صاحب كتاب حدس اللحظة) هو القائل بأن الانسان يحب الماضي أكثر من الحاضر والمستقبل لأنه (أي الماضي) لم يعد يشكل خطرا عليه؟!!، وفعلا نحن جميعا نحنُّ الى ماضينا حتى في لحظاته او ساعاته او ايامه وشهوره القاسية أكثر مما نحنّ او نحب حاضرنا او مستقبلنا الذي يضمر لنا في طياته خطر المجهول.
أسوق هذا الكلام وأنا أتفحص جسدا عنيدا تلبسته روح عظيمة وقد استحال الآن الى كومة عظام لا تتمكن من مجاراة روحها، ذلك هو محمد زمان الفنان والشاعر والانسان الكبير، ولن تكون عاطفتي هي مصدر هذه الكلمات وهذه السطور قط، نعم أنا أحب محمد زمان وأخشع بل وأركع أمامه كأي عملاق قارع نكد الحياة بصبر لا يضاهيه سوى صبر الأنبياء، فلقد قفز ذات يوم وهو في العشرين من علو الى أعماق نهر الحسينية وهو النهر الوحيد في كربلاء ليصطدم رأسه برأس سابح آخر كان غاطسا تحت سطح الماء وبغتة يغدو جسد الشاب محمد زمان كتلة لحم وعظام مشلولة لا تقوى على الحركة وظل هذا الجسد الخرافي يعاني حالة الشلل ثلاثة عقود وأكثر والى لحظة كتابة هذه السطور، والآن يتذكر ادباء كربلاء ومنهم (حسن النواب /أياد الزاملي/ علاوي كاظم كشيش/ ماجد الوجداني/ صلاح الحيثاني/ باسم فرات/ كريم جواد/ هاشم معتوق/ فاضل عزيز فرمان/ حميد حداد/ عقيل أبو غريب/ خالد الخفاجي/ حميد الوجداني/ هادي الربيعي/ علي حسين عبيد) أن محمد زمان كان مركز الحراك الأدبي والفني في كربلاء طيلة عقدين من الزمن حيث شكل في ثمانينيات القرن الفائت مركز استقطاب لجل هذه الاسماء التي كانت في بدايات الطريق الابداعي (باستثناء الربيعي)، ويتذكر الآن أياد الزاملي وعلاوي كاظم كشيش وفاضل عزيز فرمان وعقيل ابو غريب وغيرهم تلك الجلسات الأدبية التي كنا نقيمها في بيت محمد زمان، نقرأ فيها القصة ونتحاور حولها سلبا وايجابا في حوار يصل بحدته الى أقصاه وننشد الشعر ونتعاطى الأدب والفن لاسيما التمثيل والمسرح عامة لنصنع أمسية تعجز عن تحقيقها مؤسسات متخصصة في ذلك الحين، ولعل أروع الاعمال المسرحية الهامة التي خرجت في ذلك الحين بكربلاء كانت تحمل بصمات محمد زمان تصحيحا أو تأليفا وإخراجا أو تعريبا، وكنا معشر الأدباء بلا موعد مسبق نجد بعضنا بعضا في بيت ذي طراز شرقي يتمركز في قلب كربلاء ذلك هو صالون محمد زمان، وأروع ما سجلته الذاكرة تلك الطقوس التي ترافق عملية التقاطر على هذ البيت، فأنت لو وصلت الاول او الأخير من بين الادباء او الفنانين فعليك أن تفهم واجبك وتحصل على حقوقك شئت أم أبيت، وهذه الطقوس عبارة عن خطوات اجرائية بسيطة جدا لكنها لا تنسى، فحين تصل الباب الخشب الصاج للبيت الكائن في قلب كربلاء وترتقي العتبة وتمد يدك الى زر الجرس يُستحسَن أن لا تضغط الزر أكثر من مرة حتى لو أتيت في عز ظهيرة الصيف وحتى لو ساورتك الظنون بأن محمد زمان ينعم في قيلولته او غائب في أحد النصوص الأدبية او الفنية، عليك أن تنتظر لحين وصول الجسد (البطيء) في خطواته أثر الشلل الذي عانقه طوال عقود ظالمة، وبعد حين ستسمع من خلف الباب خطوات مكبوتة راخية ثم سيفتح لك محمد زمان حتما وسترى هيبته وهدوءه الوديع وحركات جسده المتموج عبر كامرة تصوير سينمائية بطيئة، وستخطو برهبة ومحبة الى الصالة الحنون وتقتعد أريكة مناسبة وستمتد لك يد عصامية عجيبة في قوتها وضعف عضلاتها وعظامها وهزالها وبطء حركتها لتسلمك (مسقولة تحْلية) ترافقها كلمات رقيقة ضاحكة (حلّي حلقك) ثم تمتد لك ذات اليد العظيمة بسيجارة نوع سومر (سن طويل أسود/ أغلى وأكثر انواع السجائر طيبة في نكهتها آنذاك) وبعد حين ستأتيك كأس العصير بالطبع ليس لوحدها إنما هناك جسد يكابر بما يليق بروعة الروح البارعة ولو رغبت بالحصول على شيء يعجبك غير ما هو مخصص من لدن المضيِّف فلك حرية الوصول إليه وجلبه بنفسك كأن يكون فنجان قهوة او موزة أو تفاحة أو نستلة ككاو موجودة في المجمدة الصغيرة الموجودة في المطبخ الذي يقود إليه سلّم بعدة درجات.
إن بعض هذه التفاصيل أو كلها عاشها حسن النواب واعتادها أياد الزاملي وجربها ماجد الوجداني واستصعبها لكن طبقها علي حسين عبيد ولم يتواءم معها هاشم معتوق فيشبّ خارج طوقها أحيانا وعشقها فاضل عزيز فرمان ومر بها علاوي كشيش الذي ربما لا تشكل له شيئا في ذلك الحين ونادمها باسم فرات الذي كان في ذلك الحين أصغر القوم عمرا وتجربة وأكثر أقرانه نباهة، وحببها عقيل ابو غريب، وكل هذه التفاصيل كانت تكمِّل ذلك المشهد اليومي الذي غالبا ما كان يتمخض عن امسية قصصية او شعرية او فنية، فمن هذه الجلسات خرجت اروع الاماسي في بيت محمد زمان وخارجه أي في المركز الاعلامي او في قاعة (حقي الشبلي المسرحية) التي بناها شبان الادب والفن في كربلاء وموَّلها ماديا بالكامل محمد زمان الذي أسس فرقة (حقي الشبلي) في حينها والتي قامت بدورها بعرض اعمال مسرحية كتبها عدد من ادباء كربلاء منهم مسرحية (الشاعر والحرب لحسن النواب) الذي شارك في تمثيلها ايضا ومسرحية (ممثل رغم أنفه) لعلاوي كاظم كشيش على ما اتذكر وغيرهما من الاعمال، ويتذكر أياد الزاملي قطعا تلك الجلسات النقدية التي كنا نعقدها بعد انتهاء هذه المسرحيات وذلك السجال الرهيب المحبب وتلك الآراء التي قلما كانت تلتقي في تأويلاتها حتى بين أقرب الاصدقاء لكن الهدف العظيم الذي كان يكمن وراءها هو ذلك الحراك المموَل ذاتيا والذي لم يسمح فيه محمد زمان الأصيل ليد السلطة ان تمتد لهؤلاء الادباء في ذلك الحين، فكان حاميا لهم قدر ما يستطيع ولعدد آخر من الفنانين من الانزلاق في مهاوي الأدب او الفن الرخيص.
وأجمل ما في محمد زمان انه كان يدرس شخصيات الادباء والفنانين الشباب في حينها من دون أن يعلموا بذلك، فلم يكن يصرح لهم او يلمح بهذا الأمر قط، إنما كان رجلا دقيق الملاحظة وذا فراسة راسخة وذا صبر رهيب، فهو يعرف ما الذي يحبه فرمان او النواب أو الزاملي أو كشيش او عقيل ابو غريب وكل الادباء ويعرف ايضا ما الذي يكرهونه، فعلى سبيل المثال كان بعضنا يصطحب اطفالهم أحيانا معهم الى محجة زمان فما كان منه إلاّ أن صنع إرجوحة في باحة البيت الشرقي من دون ان يطلب منه احد ذلك وكم تأرجح ولدي شكري في الثمانينيات على ارجوحة محمد زمان التي لا يزال شكري يذكرها بمحبة لا تضاهيها محبة أخرى، واذا كان احدنا يحب نوعا معينا من السجائر فسيجدها من دون ان يطلبها في الجلسة القادمة لان محمد زمان سيلاحظ ذلك ولدينا الكثير من المتطلبات التي كنا نحصل عليها قبل أن نطلبها إلاّ شيئا واحدا كان يبخل به على بعضنا وليس كلنا، ذلك هو طلب الكتاب (وزمان كنز الكتب النفيسة) إذ كنا في ذلك الحين نطبق المقولة (سيئة الصيت) التي تنص على أن من يعير كتابا فهو مغفل ومن يعيده لصاحبه مغفل ايضا، وممن هم مستثنون من هذا الحضر الإعاري أياد الزاملي وعلاوي كاظم كشيش وفاضل عزيز فرمان كما أتذكر، فقد كان الزاملي يحصل على ما يريده من الكتب من محمد زمان على سبيل الإعارة وأظن ان هناك تعاملا متبادلا بين زمان والزاملي لأن الأخير كان يتحصل على مكتبة فاخرة ايضا.
ولعلي لا أجيء بشيء جديد لو ذكرت تلك الأنفة الفريدة التي يتحلّى بها محمد زمان الكبير، هذا الرجل الذي قرأ المشهد الكربلائي بعين خبير ووازن بدقة بين متطلبات تلك المرحلة سياسيا وبين الحفاظ على نظافة الأدب والفن قدر المستطاع في آن واحد، ونتذكر جميعا ذلك الدور الفاعل لمحمد زمان في رسم وتدعيم خطوات الادباء خاصة في تفعيل الحراك الادبي، أما اذا حانت انتخابات الادباء فسوف يرسم زمان للجميع ادوارهم التي ستقود الى نتائج انتخابية مناسبة في وقتها.
إن الكلام عن هذا الأديب والفنان والانسان العصامي لن يجزيه حق جزائه ولكن هذا هو أضعف الوفاء كما أظن، ولعل بعض الاصدقاء من ادباء وفناني كربلاء لهم وجهات نظر أخرى او ذكريات لا تلتقي مع ذكرياتي ولهم الحق في ذلك قطعا، فكل منا ينظر الى الحياة بالعين التي تناسبه وتعجبه، ولو سأل أحدنا الآن عن هذا الرجل العملاق وعن حياته الحاضرة وعن مصيره، فسأقول له إن محمد زمان محبوس طوعيا وكما يفرض عليه وضعه الصحي في بيت يصغر بيته الشرقي القديم كثيرا ويبعد عن قلب كربلاء كثيرا بحيث لا يصل اليه من دم البقاء سوى النزر اليسير ناهيك عن فقدان الكهرباء والتكييف الذي يتوافق وحالته الصحية، إنه يتمدد على سرير لا يستطيع مغادرته إلاّ ما ندر، إنه ينزف عرقا من جسد لا ماء فيه كأرض غادرها مطر الوفاء منذ ألف عام.
نداء:
* أتوجه لأصدقائنا من الادباء والمثقفين عامة ممن يهمهم أمر محمد زمان لتدوين مذكراتهم مع هذا الرجل وأقترح أن تجمع هذه المذكرات بكتاب واحد يسهم فيه كل الاصدقاء الأوفياء ونضع له عنوانا يليق بهذا المبدع الأصيل ونقدمه له هدية قبل فوات الأوان.
أقرأ ايضاً
- أثر الزمان في تغير الاحكام القضائية
- كربلاء دولة الإنسانية والحسين عاصمتها
- كربلاء وغزه ومآسي هذه الامه