إعتلى صفحات الجرائد هذه الأيام كلام كثير عن العلاقة الاشكالية بين المثقف والسياسيّ، ومن الواضح أنّ المحور الأساسي الذي طاف حوله كل هذا الكلام، هو ما يحدث – بين وقت وآخر – من لقاءات بين السياسي الفلاني أو العلاني وبين عدد من المثقفين، وقد لاحظت أنّ بعض هذا الكلام محكوم بسياقات دوغمائية وعصابية أنتجها باعتقادي ذلك الرهاب المزمن من السياسة والسياسي – أية سياسة وأيّ سياسي –، ذلك الرهاب المتولد من إدمان العيش في الخنادق الثقافية الملتزمة ابان الحكم الديكتاتوريّ، حينما كان الرد الثقافيّ المثالي والملتزم هو التخندق – بصورة او بأخرى – ضد الاستبداد والقمع واستباحة الدماء والحقوق والثقافة، لذلك وجدت أنّ من الضروري أن أقذف بدلوي في بئر هذه المسألة الاشكالية.
رغم افول الديكتاتورية ما زال العديد من المثقفين الملتزمين يفضلون السكن في خنادقهم القديمة التي لا يرون سواها ولا يريدون أن يعترفوا بتبدل الملامح من حولها، لذلك نراهم يقومون بصيانة تلك الخنادق وادامتها وتشغيلها بوقود مستعار من مواقف (بطولية!) سالفة يستعرضونها باسلوب فيه مزايدة مفضوحة وفجة، كما يقومون بسحب السياقات والشروط التي كانت تحكم العلاقة بين المثقف الملتزم والسياسيّ في النظام الديكتاتوريّ وترحيلها بشكل تعسفيّ الى خارطة النظام الديمقراطي، متناسين أنّ السياسيّ في نظام الحزب الواحد المتسلط ليس هو نفسه السياسيّ في عهد الديمقراطية الوليد رغم علاته، بمعنى أنّ السياقات والشروط التي يفرضها السياسي الاول مناقضة تماماً للسياقات والشروط التي يقترحها الثاني.
لكي اكون واضحا اكثر أقول بأنّ السياسيّ الحالي اذا اراد ان يلتقي بمجموعة من المثقفين مثلا، من الطبيعيّ أن يقوم بذلك بطريقة لا تنتقص مطلقا من كرامة المثقف لسببين: الاول عدم وجود سلطة ما تجبر المثقف على الاستجابة، والثاني رغبة السياسيّ باقناع المثقف ببرنامجه للحصول على اكبر عدد من الاصوات في الحصاد الانتخابيّ المقبل، وفي كل الاحوال لا يخسر المثقف شيئاً من ثوابته اذا لـبّى دعوة سياسيّ ما ليصغي ويعرف فقط من دون أن يقدم – طبعاً – فروض الولاء والنفعية الرخيصة والبالية.
إنّ لقاء المثقف بالسياسيّ – تحت مظلة شروط كريمة ونديـّة – ليس جنحة ثقافية مطلقا، وليس خيانة للالتزام والحداثة كما يتوهم بعض النائمين على مفاهيم محروسة باقفال قديمة وصدئة، لانه اذا كان المثقف يعتبر نفسه ليبرالياً و حداثوياً عليه أولا أن يتعلم فنّّ الاصغاء حتى لمن يعتبرهم اعداءه ، لأنّ الاصغاء – كما يؤكد جاك دريدا – هو الشرعة الاخلاقية الاساسية للحداثة.
أتفق كثيرا طبعا مع من يقول بأنّ أغلب الساسة العراقيين الآن قاصرون وفاسدون ومتشبثون بمصالح شخصية وفئوية وطائفية ضيقة، ولكن هذا الشيء يجب أن لا يجعلنا نصاب بفوبيا مزمنة من شيء اسمه سياسة ومن أيّ شخص يحمل صفة سياسي، فمن الخطأ والسذاجة طبعا أن نعتبر أنّ أيّ عمل سياسيّ هو نجاسة ودناءة، وأنّ ايّ سياسيّ هو عدو بالضرورة، لأننا بالتالي سنقع في تلك الفخاخ الدوغمائية التي وقع بها العقائديون المتطرفون العنفيون عندما اعتبروا أنّ كل شيء يسكن خارج معتقداتهم هو خطيئة يجب أن تحارب وتمحى بأية وسيلة.
لا خوف مطلقاً على المثقف الحقيقيّ إذا التقى بالسياسيّ وأصغى إليه وحاوره بشكل كريم ومشرف طبعاً من دون تقديم أية تنازلات تسيء له ولثوابته الثقافية، خاصة وأن المثقف يملك مساحة من الوعي تحصنه وتمكنه من معرفة وفضح كل الألاعيب الميكافيلية التي يتبناها ويمارسها الكثير من السياسيين.
إنّ الاصغاء ضروريّ حتى الى من نفترضه عدواً، لأننا بذلك سنكتشف كل النقاط السلبية والايجابية عند ذلك العدو، الشيء الذي يجعلنا مدججين بمعرفة أكبر تمكننا من مواجهته مستقبلا بطريقة صائبة.
أن نصغي بعمق .. هذا يعني أننا نستطيع أن نتكلم بعمق أيضاً عند الضرورة.
لا خوف إذن على المثقف من ثقافة الإصغاء، لأنّ الإصغاء مفتاح يقود الى فتح بوابات المعرفة، والمعرفة هي السيطرة كما يقول كارل ماركس.
أحمد عبـد السادة