- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
فلسفة الكذب.. بين الاعلام وتقبل الهزيمة
لا أعرف ما إذا كان تعبير (فلسفة الكذب) قد استخدم من قبل، لكن الإشارة إلى ظاهرة ابتكار الأكاذيب السياسية وترويجها غالباً ما اقترنت باسم غوبلز الوزير النازي الشهير بصفته المرجع الأعلى لصناعة الأكاذيب
وعباراته الأكثر تداولاً (كلما كانت الكذبة كبيرة كلما صدقها الآخرون) أو (اكذب .. اكذب حتى يصدقك الآخرون) تحولت إلى مبادىء اعتمد عليها معمل انتاج الأكاذيب الهتلري آنذاك ومن آمن باساليب الدعاية النازية لاحقاً.
لكن فلسفة الكذب ليست صناعة هتلرية. أن ما حدث أيام هتلر هو نوع من تطوير عملي لها. هدف هذه الفلسفة هو التغطية على حقائق معينة لا تنسجم مع الأيديولوجيا التي يُراد تكريسها، من خلال تكبير عناصر معينة من الواقع والمبالغة فيها وتكرارها باستمرار كي يُدمن عليها الجمهور بحيث لا يرى أو يسمع سواها، ليصبح من الممكن لاحقاً خلق مناخ ملائم لتمرير المزيد من الأكاذيب ومراكمتها لتسهيل التلاعب بمشاعر هذا الجمهور والتأثير على وعيه وإرادته حتى يكون من الممكن تحويل المجرم إلى (بطل) حيث لا يعود من السهل اقناع الجمهور بأن الحقيقة هي عكس ذلك. إن الأكثر خطورة في هذا الأسلوب هو أن الأجيال اللاحقة في البلد المعني ستنشأ على منظومة من الأكاذيب لا تكاد تعرف سواها. هذا ما حدث في عراق البعث، وهو ما يُفسر السجن الإعلامي والمعلوماتي الذي أُحيط به العراقيون لما يقارب من أربعين سنة.
لكن لا بد من القول هنا أن فلسفة الكذب هي أحد تعابير أزمة الحزب الأيديولوجي قومياً كان أم يسارياً أم دينياً، فهذه الأحزاب جميعها تملك جهازاً خاصاً لـ(الدعاية) تبدأ من تشويه سمعة الآخرين المختلفين أو المنافسين، ولا تنتهي بتمجيد وأسطرة شخصية الأمين العام أو الرئيس القائد، والأمثلة كثيرة ومعروفة.
أن نجاح دعاية سياسية معينة عبر ترويج مجموعة أكاذيب مرتبة بطريقة يسهل تقبلها أو تصديقها من قبل جمهور معين، لا تأتي اعتباطا. إنها لعبة مشروطة بظروف وعوامل محددة. فقد نجحت أكاذيب غوبلز وهتلر لأن المجتمع الألماني وقت ذاك كان يعيش أزمة وجدانية جراء هزائم حربية سابقة واتفاقيات مهينة فـُرضت عليه، وأزمة سياسية تاريخية مع عموم الوضع الأوروبي الذي كان بحاجة إلى إعادة ترتيب ينسجم مع القوى الصاعدة، ناهيك عما أحدثه نجاح الثورة البلشفية في روسيا من قلق وبلبلة في عموم الرأي العام الأوروبي، بالاضافة إلى حاجة المجتمع الألماني لحكومة قوية تنقذه من أزماته الاقتصادية، وهذا ما ساعد على فوز الحزب القومي الألماني (النازي) في الانتخابات، وبالفعل فقد أستطاع النازيون تطوير الصناعات واستيعاب المزيد من القوى العاملة والمباشَرة بمشروع عسكرة المجتمع مع المزيد من الأناشيد القومية والدعاية النازية التي ركّزت على شخصية الفوهرر باعتباره الزعيم والمنقذ الذي طال انتظاره. ولا بد من أن ننتبه هنا إلى أن كل هذه العوامل والظروف هي التي خلقت استعداداً واسعاً عند الجمهور الألماني لتقبل الأكاذيب وليست قوة الأكاذيب بذاتها. وفي إدراك هذه الناحية بالذات يكمن أساس هذه الفلسفة، فالأكاذيب لا تملك سحراً خاصاً والجمهور غير مستعد لتقبلها في كل الظروف والأحوال على عكس ما يتصور المشرفون على الفضائيات العربية التي تحولت الكثير من أكاذيبها إلى مجرد فجاجة إعلامية.
ولاحقاً ومع الانتصارات السريعة الأولى للجيوش الألمانية ارتفعت وتيرة إنتاج الأوهام وصار الجميع بحاجة إلى مزيد من الأكاذيب لتغذية وتطوير الطيش التاريخي للنازيين المتعطشين للخلاص من مشاعر العار جراء هزائم ألمانية المعروفة في حروبها الأوروبية السابقة والاتفاقيات التي فُرضت عليها وأثقلت كاهلها. لقد كانت عملية تعويض نفسية ومعنوية عن تلك المشاعر المجروحة لأمة ليست قليلة ولا هينة، أصبحت تطمح لتحقيق مشروع الهيمنة على العالم وكسر شوكة الجميع (لتحكم ألمانيا العالم لمدة ألف سنة) كما كان يردد هتلر !! لكن ماذا كانت نتيجة الحرب العالمية الثانية ؟! أكثر من خمسين مليون قتيل وجريح وتدمير المدن الأوربية الرئيسة وضرب اليابان بالقنبلة الذرية الأمريكية والخسائر الاقتصادية الهائلة !! ألا يكفي كل هذا لهزيمة ألمانيا ؟! لم تُهزم ألمانيا وأيطاليا واليابان فقط ؟! بل هُزمت الثقافة الإنسانية أيضاً، هُزمت أمام وحشية الإنسان ذاته وسطوة أوهامه القاتلة، هُزمت الأكاذيب التي فرضها النازيون على أنفسهم وعلى الآخرين، ولم ينتصر سوى الخراب الذي عم العالم، حيث أصبح الحديث صريحاً عن (انحطاط الثقافة الأوروبية)، انحطاطا كان عنوانه الكذب على الذات ثم الكذب على الآخرين ألا تنطوي الثقافة الغربية الآن على أشياء من تلك الأكاذيب ؟! مجرد سؤال.
لقد شاء سوء الحظ أن تعيش منطقة المشرق العربي في الخمسينيات والستينيات تجارب مماثلة لناحيتي السياق المتعثر والنتيجة المعروفة مع الرئيس الراحل عبد الناصر الذي استحوذ على عقول ومشاعر الملايين التي أغرقتها الشعارات والأناشيد الحماسية لتكتشف بعد سنوات قليلة بأنها كرست كل جهودها تصفيقاً للبطل لكنها لم تر البطولة بل وجدت نفسها غارقة في هزيمة لم تكن تخطر على بال صناع الإعلام العربي الكاذب ومضللي الجماهير !! جماهير لم يستطع المعنيون أن يجدوا لأزماتها اليومية حلولاً واقعية فأحالوها إلى الأوهام والتاريخ لتعيش في كنف ثقافة الماضي وهوادجه وتسمع صليل سيوفه لتستيقظ على غبار هزيمة 1967 !! وبدل أن نتعظ من مرارة الهزيمة، سرعان ما تم تركيب سيناريو آخر لصعلوك سياسة مغمور اسمه صدام ليصبح (بطلاً قومياً) جديداً، حيث استوعب البعثيون جيداً خبرة الإعلاميين والكتاب العرب، وفي مقدمتهم عدد من العراقيين، الذين استثمروا خبراتهم السابق في المرحلة الناصرية لتضبيط الماكياج والرتوش بمئات الملايين من دولارات النفط الذي شهدت أسعاره الطفرة المعروفة في السبعينيات. (كل ما ننفقه على الإعلام العربي سنوياً لا يساوي ثمن دبابة تحترق مثلها العشرات كل عام) !! هذا كان جواب طارق عزيز خلال الحرب مع إيران عندما سأله أحد الزوار العرب مستغرباً من المبالغة في نفقات النظام على بعض وسائل الإعلام العربية !! لقد كان كلُّ شيء يقاس بالدبابات وأسعار الدبابات التي صَنعتْ الهزائم والأكاذيب. وعودُ على بدء : ماذا نقصد ب (استعداد الجمهور لتقبل الهزيمة) ؟! معنى الهزيمة هنا أن تستعيض عن حقائق الحياة بالأوهام، أوهام مقاومة الإمبريالية بتكريس الديكتاتوريات العسكرية والحزبية وأنظمة زنازين المخابرات والأناشيد الثورية !! حيث ظلت الشعوب الأخرى تتقدم ونحن نتراجع !! وعندما طالت فترة هذا الفشل السياسي المتكرر أصبحت الساحة مهيأة لصعود الحركات الأصولية المتطرفة، فأصبحنا مع أناشيد دينية بذات الحماسة يتم إنتاجها تطوعاً في كهوف أفغانستان أو كهوف النفوس المظلمة مع تعاليم بقطع الرؤوس وتكفير القريب والغريب، أصبحنا الآن مع ثقافة الانتحار والسيارات المفخخة، أليس الإنتحار بحد ذاته وبالعدمية الرهيبة التي يمارس بها هو هزيمة ؟! أليس توريط الآلاف من شباب العراق المحرومين في ميليشيات تقاتل أجهزة الدولة وتنتهك حرمة المجتمع لمصلحة مجموعة من المغامرين السياسيين، هزيمة ؟! هزيمة العقول التي لم تعد تفهم من الحياة والدين سوى لحظة الموت وإنتاج القتل والخراب وتعميمه على العالم. ليسوا مجرد أشخاص متطرفين يريدون القتل والانتحار بل هم أيضاً رموز لثقافة مهزومة ليس لها خيار سوى الانتحار. أنها ثقافة مندحرة تقتل نفسها بنفسها ولن تلحق الآخرين سوى شظاياها مهما بدت الخسائر فادحة.
هذه هي تركيبة التخلف المحتشدة بالرطانة والشوائب التي تروجها بعض الفضائيات والصحف العربية مباشرة أو مداورة بحجة معاداة الامبريالية !! ولكن لمصلحة من ؟! ومن يدفع الأموال الطائلة لإدارة لعبة معتمة لا ينعم بها سوى أشباح تركوا أرض الله الواسعة واختاروا العيش في الكهوف، كهوف الجبال البعيدة أو كهوف النفوس المريضة.
ما لا يدركه الجمهور ضحية عقود من الإعلام العربي الزائف، الثوري ثم الإسلاموي، هو أن كل هذا الإرهاب وثقافة التكفير لن تـُنتج سوى المزيد من التآكل الاقتصادي والحضاري في بلداننا. وهذا ما يصب مباشرة في مصلحة القوى الدولية التي تدعي تلك الجماعات مقاومتها!! فتلك القوى تتقدم وتتطور رغم كل ما يبدو لنا من صعوبات وازمات، في حين يتراجع كل شيء في بلداننا لنخسر أهم عوامل التقدم، وهو الوعي السياسي المنهجي لتحليل ظواهر الواقع وتجاوز أزماته، ليملأ رؤوسنا فقط دوي الماضي وثقافة الحقد والتكفير !! ثم لملمت أشلاء الضحايا لتنسأ معها وتتضخم ثقافة الانتقام، أليست هذه هي الهزيمة ؟! أليس هذا ما يريده مغامرو السياسة الجدد ؟! أليس هذا ما يريده من يقف وراء تلك الفضائيات ووسائل الإعلام التي أدمنت على صناعة الأكاذيب وإنتاج الأوهام السمجة ؟!
أقرأ ايضاً
- دور الاعلام القضائي في تحقيق الأمن القانوني
- فلسفة الموت عند الإمام الحسين (عليه السلام)
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود