الخلوة ليست انسحابًا من الكون، بل ولادة ثانية للحضور. في الظاهر تبدو ابتعادًا عن الناس، لكن في جوهرها اقترابٌ من الذات، تلك الذات التي تتهشم في صخب الأيام وتتذكر نفسها فقط حين تصمت. إن الروح لا تنضج إلا في عزلة تُضاء بنور داخلي، فالخلوة نافذة تطل عليها الريح الخفيفة، تحمل أسرارًا لا تُقال إلا لمن يُحسن الإصغاء. في الخلوة نتعلم الإصغاء، لا لأصواتٍ تأتي من الخارج، بل لنبضٍ خافتٍ في الداخل: أسئلةٌ تطرق كالأبواب: من نحن؟، من أي طريق جئنا؟، وأي معنى يجعل هذا الوجود جديرًا بأن يُعاش؟، يقول القلب في تلك اللحظة: "لا تبحث عن جوابٍ في الآخرين، إنما في اتساعك أنت"، فالخلوة ليست سجنًا، بل فسحةٌ يمد فيها الإنسان يده نحو ظله ليصافحه، ويتصالح مع عيوبه، ويرى جماله الذي غاب عنه طويلًا.
تُعلمنا الخلوة أن اليقين ليس صخرةً نعتليها، بل ماءٌ نسير فيه وفوقه، يتشكل بنا، ويتلون بنا، ويفصح عن صورنا كما نحن، لا كما نُريد أن نُرى. الخلوة ارتحالٌ نحو غيمةٍ لا تُسافر إلا إلى الداخل، هي تفتيت المعنى القديم وبناء معنى جديد، هي لحظةٌ يتقاطع فيها الشعر والفكرة، ويكتشف فيها الإنسان أنه قصيدته الأولى والأخيرة. في الخلوة تعود التفاصيل الصغيرة لتكون وطنًا، حبة قهوة، كتاب مفتوح، ضوءٌ ساكن، وليلةٌ تقف على كتفك كصديقٍ صامت، لا يطلب شيئًا سوى أن تكون. الخلوة لا تعلمنا الهرب، بل تعلمنا أن نواجه الوجود دون وجوهٍ كثيرة تتكلم بدلًا عنا. هي امتحانٌ شفيف للشجاعة، أن نرى أنفسنا بلا تجميل، ثم نحبها رغم ذلك. وحين نعود من الخلوة، نعود أقل ضجيجًا، أرحب قلبًا، وأكثر فهمًا لآخرين يمشون حاملين جراحهم في جيوبهم. كأن الخلوة تقول لنا: "من يزور أعماقه، لا يعود كما كان، إنه يتعرف، للمرة الأولى، على وجهه الحقيقي". في ذروة الخلوة، يولد شيء يشبه الهمس، لكنه ليس همسًا إنه مسودة روح تُعيد ترتيب نفسها بالكلمات. فالكتابة ليست صنعة تُمارس على هامش الحياة، بل هي شكلٌ من أشكال الشفاء، ممرٌّ تستعيد فيه النفس توازنها، كما تستعيد الشجرة ماءها عبر جذورٍ لا يراها أحد.
حين تتحول الخلوة من انكفاءٍ إلى رؤية، تصير الكتابة ضرورة، لا رفاهًا ولا حلمًا، بل فعل نجاةٍ يقي الروح من اليباس. والكلمة لا تتنفس حقًا إلا حين تخرج من قلبٍ جلس طويلًا على عتبة نفسه؛ وهكذا، تصبح الكتابة استمرارًا للخلوة، تجعل ما كان صمتًا يتحول إلى موسيقى، وما كان شعورًا معلقًا يصير لغةً تمشي. ومن هنا تكتسب الكتابة عظمتها: أنها الطفل الذي تولده الخلوة، والمصباح الذي يتلقى زيت روحه من ساعات الانفراد الطويلة، والجسر الذي يسمح لنا، كلما عبرناه، أن نتفقد أرواحنا كما يتفقد الناس حدائقهم بعد المطر. إن العودة إلى الروح ليست انسحابًا من العالم، بل تأسيسٌ لعلاقةٍ أعمق معه؛ فالكاتب الحقيقي لا يكتب ليهرب، بل ليبقى، ليترك على الورق ظلًّا يشبهه ويصالح داخله مع خارجه. تلك اللحظة التي تخرج فيها الكلمات من منطقة اللاوعي، وتصير جملةً، ثم معنى، ثم رؤيا،هي دليلٌ أن الخلوة لم تكن عبثًا، وأن الصمت كان يحمل في جوفه بذرة كلام. أهميتها أنها تمنح الإنسان سلطة أن يفهم نفسه، وأن يمنح فهمه شكلًا يُرى، فتصبح الكتابة شاهدًا على أنه كان هنا يومًا، وأنه ابتكر لغةً خاصةً تكفلت الأيام بحمايتها. وهكذا، حين نخرج من الخلوة، لا نخرج كما دخلنا: نصير أخف، أعمق، ونتعلم أن الكلمات ليست ما نكتبه، بل ما يكتبنا حتى تكتمل الدائرة: خلوةٌ تولد روحًا، وروحٌ تولد كتابة، وكتابة تعيد ترتيب العالم في داخلنا.
في الوحدة يُضاء الداخل، فالنور الحقيقي لا يأتي من الشمس، بل من القلب حين يتجرأ أن يرى نفسه في العتمة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!