ابحث في الموقع

مصر وإعادة صياغة المعادلة الإقليمية

مصر وإعادة صياغة المعادلة الإقليمية
مصر وإعادة صياغة المعادلة الإقليمية

بقلم: د. خالد قنديل

في التاريخ لحظات تستيقظ فيها الأمم على ذاكرتها الكامنة، فتتذكر من تكون ولماذا وُجدت. ومصر، حين تتحرك، لا تفعل ذلك استجابةً للضجيج الآني، بل انسجامًا مع إيقاعها الحضاري الذي يوازن بين الواجب والقدَر، وبين الجغرافيا والتاريخ.
لم يكن حضورها في القضية الفلسطينية طارئًا ولا منقطعًا، بل امتدادًا لمسار طويل من الوعي والمسؤولية. فمنذ بدايات الصراع العربي–الإسرائيلي، كانت القاهرة نقطة الاتزان في بحرٍ من الاضطراب، تُدير الخلاف بالعقل، وتحتضن المأساة دون أن تقع في فخ الانفعال. وحين اشتدت نار الحرب على غزة خلال العامين الماضيين، وبدت المنطقة بلا بوصلة، كانت مصر تُعيد ترتيب الفوضى في جدول العقل، وتحول النزيف إلى حوار، واليأس إلى أفق.
الاجتماعات الموسعة في شرم الشيخ لم تكن ميلادًا جديدًا للدور المصري، بل عودةً إلى جوهرٍ لم يغِب، واستمرارًا لرسالةٍ لم تنقطع. لقد أثبتت القاهرة أن من يملك مفاتيح العدالة هو وحده القادر على حفظ الأمن، وأن من يرى الإنسان قبل السياسة هو من يصوغ المستقبل، حيث اختارت القاهرة أن تتحرك بهدوءٍ وعمق، فجمعت خيوط التباين في نسيجٍ واحد، وأعادت تشكيل ما يمكن تسميته بـ "الإجماع العربي" حول معادلتها الثلاثية: وقف العدوان أولًا، إدخال المساعدات فورًا، ثم العودة إلى مسارٍ سياسي يقود إلى الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
بهذه الرؤية، تجلت مدرسة الدبلوماسية المصرية: مدرسة لا تقوم على الإقصاء بل على الإدماج، لا تفرض الحلول بل تهيئ شروطها، وتؤمن أن السياسة ليست إدارةً للصراع فحسب، بل بحثٌ عن توازنٍ أخلاقي بين القوة والعدل.
ولعل مشهد شرم الشيخ، الذي جمع حول طاولةٍ واحدة أطرافًا طالما تنازعت – من حماس إلى إسرائيل، ومن تركيا إلى الولايات المتحدة – هو البرهان الأوضح على نجاح هذه الفلسفة التي تُزاوج بين الثبات والمرونة، بين الواقعية والمبدأ. لقد أدركت مصر أن غزة ليست ساحة حربٍ فقط، بل بوابة هندسة الأمن الإقليمي. فوقف النار فيها يعني ضمنًا تحييد الانفجار في الجنوب اللبناني، وتخفيف الضغط عن الأردن والضفة، وإعادة التوازن لمياه شرق المتوسط التي أنهكها الاستنفار.
ومن ثم، فإن ما تحقق في شرم الشيخ لم يكن انتصارًا تكتيكيًا فحسب، بل استعادة للثقة الدولية في الوساطة العربية. فقد برهنت التجربة المصرية أن الاستقرار لا يُستورد من الخارج، وأن السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُصاغ بالحكمة حين تمتلك الأمة إرادتها ووعيها بموقعها في الزمن. وإشادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالدور المصري، يعد اعترافًا بأن مفاتيح الشرق الأوسط لا تُدار إلا عبر القاهرة. فبين اضطراب القوى وتغير الموازين، بدت مصر المحور الأكثر ثباتًا واتزانًا، قادرةً على مخاطبة الجميع بلغةٍ تحفظ التوازن بين العقل والمبدأ.
لم يكن الموقف المصري من حرب غزة مجرد تحرك سياسي، بل تجسيدًا لرؤية حضارية تؤمن بأن السلام لا يولد من الهيمنة بل من العدالة، وأن الأمن بلا إنسانية هو استمرار للحرب بأدواتٍ أخرى. ومن هنا، استعادت القاهرة موقعها كـ ضميرٍ عربيٍ هادئ يوازن بين القوة والرحمة، وبين الواقعية والإيمان بالإنسان. وهكذا، لم تكن شرم الشيخ ساحةً للتفاوض فقط، بل رمزًا لعودة المركز العربي إلى تاريخه ووظيفته، حيث تصوغ مصر معادلتها الدائمة: القوة حين تُضبط بالضمير تصبح سلامًا، والقيادة حين تتكئ على الوعي تصنع التاريخ.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!