ابحث في الموقع

النفاق.. جهاز سلطوي في العراق

النفاق.. جهاز سلطوي في العراق
النفاق.. جهاز سلطوي في العراق

بقلم: أحمد حسن

لم يعد النفاق ازدواجية أخلاقية شخصية أو سلوكا اجتماعيا وانما بات في الواقع العراقي جهازا سلطويا متكاملا. بالمعنى الذي أشار إليه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في تحليلاته لآليات السلطة وانبثاقها من داخل المجتمع لا من خارجه. وهكذا لم تعد النقاشات التي تدور على شاشات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ولا سيما في مجموعات الواتساب المغلقة مجرد جدل أو تنفيس عن الغضب بقدر ما أصبحت إنتاجاً يومياً لـ “حقيقة” متخيلة عن المجتمع وصياغة لصورة معيارية لما هو صواب وما هو خطأ. يفرض هذا النموذج الخطابي نفسه باعتباره ممثلاً للعقل الجمعي ويعيد ترتيب الحقول الرمزية بما يخدم سلطته المعنوية ويكرس هيمنته على النقاش العام.

هذا الخطاب المنافق يقدم نفسه كحارس للمذاهب أو للوطنية أو حتى كصوت للحرية والعدالة والديمقراطية غير أن جوهره ينصرف إلى ممارسة وظيفة ضبط خفية تقرر من يسمح له بالكلام ومن يسخر منه ومن يلغى رقمياً. تتحول المنصات مثل فيسبوك، إكس، تيليغرام، ومجموعات الواتساب إلى ساحات حكم رمزية تمنح الشرعية للبعض وتسحبها من آخرين وفق مقاييس النخبة المسيطرة على المزاج العام. الحرية التي يبشر بها تتحول عملياً إلى وسيلة تأديب اجتماعي تنتج أفرادا يخشون التعبير عن آرائهم إلا بما ينسجم مع ما هو "مقبول رقمياً".

المجموعات المغلقة تحولت إلى ما يشبه المحاكم اليومية حيث يحاكم الداخل العراقي بأسلوب ساخر جارح تارة، وبخطاب وصاية أخلاقي تارة أخرى. يوصف الداخل بأنه “متخلّف” أو “غير واعٍ” ، وكأن العراقيين مادة للتحليل والتقريع أكثر من كونهم شركاء في صناعة المصير. والمفارقة أن كثيراً من هؤلاء النقاد لا يشاركون في أي مشروع مدني أو سياسي فعلي ولا يواجهون المخاطر اليومية التي يواجهها الداخل من قمع أو تهديد أمني.

حتى شريحة المثقفين من شعراء وكتاب وناشطين لا تفلت من هذه الشبكة. يرفعون شعارات الصدق والحرية والنقد الجريء بينما يمارسون في الخفاء إقصاء لا يقل عن إقصاء السياسيين. يتداولون خطاباً مزدوجاًً.. مدح في العلن وهجاء في الكواليس، دفاعاً عن الحرية في المقالات وصناعة قوائم سوداء في المجموعات المغلقة. عند هذه النقطة يتحول المثقف أو الناشط من شاهد على السلطة إلى جزء من جهازها الرمزي.

وسائل التواصل الاجتماعي نفسها تحولت إلى رأسمال رمزي للنخب. من يملك منصة ذات جمهور واسع أو صفحة مؤثرة بات يملك سلطة تعريف الحدث وتوجيه الرأي العام. صور المؤتمرات، المشاركة في الندوات، واستخدام اللغة الأجنبية كلها علامات تمنح صاحبها سلطة الكلام وحق تقرير ما هو صواب وما هو خطأ، فيما يبقى الداخل الشعبي متلقياً صامتاً وكأنه بحاجة إلى وصاية ليفهم ذاته.

وكما يقول المفكر الشهير بيير بورديو، فإن أخطر أشكال القهر هي تلك التي تمارس بخفة وخفاء. كل تعليق ساخر على منشور لشاب عراقي وكل حملة استهزاء تستهدف رأياً مختلفاً، تشكل فعلاً من أفعال العنف الرمزي الذي يرجع إنتاج علاقات القوة ويضع الداخل في موقع دفاع دائم. النفاق هنا لم يعد ازدواجية نفسية فحسب بقدر ما هو أصبح آلية هيمنة تعتمد عبر الضحك والإعجاب والمشاركة أكثر مما تكون عبر القوانين أو المؤسسات الرسمية.

الذي يفترض ان يكون هو ليس مهاجمة الأفراد بقدر ما كشف الآليات التي تجعل الخطاب محتكرا باسم احادي، ما الخوف الذي يحرك هذه الرقابة الرقمية؟.

وما الرغبة في السلطة التي تجعل المثقف أو الناشط يتعامل مع جمهوره كأتباع لا كشركاء؟.

في طبيعة الحال فان المسألة تتجاوز حرية التعبير لتصل إلى سؤال شكل المجال العام نفسه، هل سيبقى فضاء للتبادل الحر أم يتحول إلى جهاز يعمل على إنتاج هيمنة فئوية رقمية؟.

إن تحليل هذه الشبكة وكشف آلياتها يمهد لتحرير النقاش العمومي من وصايته الحالية ويتيح تغيير المنصات من ساحات إقصاء وتأديب إلى فضاءات شراكة يكون النقاش فيها سلوك للتحرر المتبادل لا وسيلة للنفاق والإذلال الرمزي.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!