ابحث في الموقع

كيانات في متاهة انتخابية

كيانات في متاهة انتخابية
كيانات في متاهة انتخابية

بقلم: حسن الجنابي

الطيف السياسي العراقي غامض، ويزداد غموضاً مع قرب موعد الانتخابات النيابية. فما يجري أمامنا ليس حركة استقطاب اجتماعي-سياسي باتجاه عقد تحالفات أصيلة ببرامج وأهداف واضحة ومتميزة عن بعضها، بل هو ترتيبات وصفقات بين أفراد أو مجموعات سياسية وأصحاب مصالح طارئة، وهي إن تعدّتْ الصبغة الشخصية، فلن تتجاوز العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو الأثنية الى الفضاء الوطني.

يكفي النظر الى أسماء الأحزاب والقوائم والكيانات المعلنة لخوض الانتخابات القادمة (والانتخابات السابقة كانت كذلك أيضاً) للتعرف على حجم الفوضى بل المتاهة الانتخابية. ففضلاً عن كون الأسماء خالية، في الغالب، من أية إشارة الى "العراق"، فهي لا تشير إلى أي مضمون سياسي وطني، بل مجرد مفردات باهتة مستلّة من القاموس دون مضامين اجتماعية أو سياسية.

وبمجرد التعرف على أصحابها يمكن تلمس المسعى الشخصي للزعماء المفترضين الساعين الى متابعة تجربة سياسية لم يبق فيها مؤشر واحد يدلّنا على سلامتها، كنهج لقيادة العراق نحو الاستقرار والديمقراطية الحقيقية ولمنع المزيد من التراجع والانهاك.
ليتفضل من يستطيع ارشادنا إلى الاختلافات في مواقف وبرامج الكيانات الجديدة المحترمة ووجهات نظرها التي تميزها عن الآخرين من القضايا الكبرى التي تواجه العراق مثل: التعليم، الصحة، السكن، التنمية، مكافحة الفقر، الكهرباء، مياه الشرب، الحريات الشخصية، التنمية الاجتماعية-الاقتصادية، البطالة، إعادة التأهيل والادماج في سوق العمل، الضرائب، نهب ممتلكات وأراضي الدولة، تقسيم النفوذ والسيطرة على مقدرات الناس في المدن والمحافظات والعاصمة بغداد، وتقاسم الدوائر الخدمية وتدويرها بين المتنفذين والأحزاب!

ومن يخبرنا عن الكيفية التي يصبح فيها رئيس قسم في دائرة مهملة مليارديراً، ويدخل سباق تأسيس الكيانات الانتخابية بناءً على حجم أمواله؟

من يرشدنا الى مصادر أموال "ملياردير" واحد من أصحاب الفنادق والجامعات والقصور والعقارات والفضائيات ومواكب السيارات الحديثة التي قد "يحسده" عليها إيلون ماسك؟

لنعدّل السؤال إلى: من يرشدنا الى واحد فقط من هؤلاء قام خلال رحلته من القاع الى "قمة الهرم المالي" بدفع قرش واحد للدولة كضريبة على ايراداته المالية كما يحصل في دول العالم؟ فبعكسه تكون الأموال "مرسلة من السماء" لا يعلم بمصدرها أحد، ويكفي لتبييضها، أما قرار عفو، أو موكب للطبيخ، أو مضيف باذخ يتجمع فيه الأتباع في المناسبات لتناول ما لذّ وطاب!

إن هذا الصعود "الصاروخي" لطبقة من الأوليغارشية المالية مرتبط عضوياً بالنشاط السياسي، التنفيذي الطابع. وهو لم يتحقق كحصيلة إيجابية للنشاط الحكومي التراكمي، الذي (افتراضاً) يكون قد حقق رفاهية نسبية واستقراراً للمجتمع، وإن مجموعة قليلة من "الأذكياء" استثمروا أموالهم بصورة مشروعة، وحققوا أرباحاً تناسب حجم المخاطرة بحجم تلك الاستثمارات.

إن الثروة المفاجئة التي يتسابق في استعراضها بصورة فجة واستفزازية السياسيون الأثرياء الجدد جاءت بطرق غير مشروعة. فلا يمكن لأي نشاط اقتصادي مشروع أن يحوّل المليون الى مليار خلال أيام أو شهور.

أحد "الصماخات" يتحدى أي شخص أن يجد له حساباً مصرفياً واحداً، وهو نفسه يملك سيولة، كما يشاع، أكثر من أي مصرف عراقي. وحتى الأموال التي يدفعها لمريديه "مسلفنة"، أي جديدة لم يجر تداولها في السوق بعد وتبدو كأنها طبعت خصيصاً لحضرته!

"صماخ" آخر قال بأنه لا يملك أي عقار، بل يسكن في منزل إيجار، وإن الاملاك التي تغطي أغلب المحافظات غير مسجلة باسمه بل باسم الحركة التي يتزعمها، التي هي ملك شخصي خالص له طبعاً!

كيانات وقوائم بشعارات متشابهة، "يحبّها" الجمهور المتعب من اجترارها، والمعتاد على استهلاكها كوجبات الغذاء، تتضمن مكافحة الفساد المالي والإداري، وحصر السلاح بيد الدولة، وتقديم الخدمات للمجتمع، وحماية استقلال العراق وغير ذلك، ولكن لا أحد على الإطلاق يقدّم رؤية، أو برنامج قابل للتصديق والتحقيق سياسياً ومالياً لتحقيق "الأهداف العظيمة" تلك. لذا فإن ورودها في إعلانات القوائم والكيانات لا يتعدى الحشو الانشائي.

لاحظ أن الشعارات المتشابهة والسباق نحو المغانم والنفوذ هي التي تفتح الفرص للانتقال السهل من قائمة الى أخرى (قد يكون حسب الدفع...!)، ولا يثير ذلك اهتمام الجمهور. فقد ذهب زمن الخذلان والهزيمة والعار، الذي كان يلحق نهّازي الفرص المنتقلين في السياسة من حزب الى آخر، حتى تحت سياط القمع والاضطهاد. فالانتماءات المعروفة للأشخاص كانت جزءاً مكملاً لموقعهم الاجتماعي وتأثيرهم في محيطهم، ويتلاشى هذا مع تغيّر الولاءات وإعلان البراءة عن ماضيهم وارتباطهم السياسي السابق.

المشكلة ليس فيما ورد ذكره، وهو غيض من فيض، بل في أن الانتخابات نفسها، كما جربناها في السابق، لن تنتج لنا شخصاً أو حزباً أو كياناً فائزاً، يشكل حكومةً لإدارة شؤون المجتمع الذي يواجه إرثاً هائلاً من المصاعب والتحديات. بل يترك الأمر الى "كتلة أكبر" ستتكون لاحقاً في الغرف المغلقة وفق صفقات تتقاسم إثرها "الكتل الفائزة" مؤسسات الدولة. أقول الفائزة لأنه لا توجد كتلة "خاسرة" في الانتخابات العراقية. فالجميع فائز حتى ولو كان بمقعدٍ واحد، فذلك ضمانة للاشتراك بالسلطة التنفيذية.

وهنا لا بد من الاستدراك بالقول في أن هذا المخاض العراقي، المشبع بالفساد، لا يخلو من الاتجاه الوطني القائم على التمسك بمعايير العمل التي تضع المصلحة الوطنية أولاً، وترتقي بالسلوك السياسي الى ما هو أبعد من العشائر والطوائف والاعراق، وتحترم تضحيات الشعب وتجربته في الاستقلال منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وتمجد الشرفاء والنزيهين من أبناء الشعب، وليس الطارئين واللصوص.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!