لم تكد أخبار استهداف حقل كورمور الغازي تهدأ حتى بدأت الأسئلة تتكاثر حول ما جرى، وما هو أبعد من مجرد صاروخ أو طائرة أو جهة مجهولة. الحدث لم يُصِب منشأة اقتصادية فحسب، بل ضرب مباشرةً واحدًا من أكثر الملفات العراقية حساسية: أمن الطاقة، وسلامة الأراضي، وحدود السيطرة الفعلية للدولة على أجوائها.
حتى الآن، تتضارب الروايات بين صواريخ غراد أطلقت من الأرض، وهجوم جوي بطائرة مسيّرة. وبالقدر الذي تنفي فيه بعض الجهات مسؤوليتها، تظهر أطراف أخرى تُلقي مسؤولية الاستهداف على الفصائل داخل العراق. وفي المقابل، تبرز تقارير إعلامية أجنبية، بعضها إسرائيلي، تتحدث عن دور تركي محتمل في الحادث، خصوصًا مع حساسية العلاقة بين أنقرة وأربيل وملف الغاز الذي ترى فيه تركيا منافسًا لمصالحها الاستراتيجية.
وسط هذا الارتباك، جاء المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى العراق ليصعّد نبرة التحذير، حين قال إن هشاشة الوضع الأمني ستجعل الاستثمارات الأجنبية “في دائرة الخطر” ما لم تُفرض سيطرة واضحة على السلاح داخل العراق.
لكن هذه التصريحات تطرح سؤالًا قديمًا جديدًا: إذا كانت واشنطن ترى أن السلاح المنفلت مشكلة، فهل تسمح في المقابل بتسليح الدولة بما يكفي كي تنهي هذه الفوضى؟ أم أن العراق يجب أن يبقى ضعيفًا بما يكفي لعدم إزعاج موازين القوى الإقليمية؟
هنا بالضبط يظهر “فراغ القوة”. فالدولة العراقية تُطالَب بحصر السلاح بيدها، لكنها لا تمتلك السلاح الكافي لفرض هذا الحصر. تُطالَب بحماية الأجواء، لكن أجواءها حتى الآن مكشوفة، مُقيّدة بأنظمة دفاع جوي محدودة، وبقرارات سياسية واقتصادية تعرقل استيراد منظومات متطورة. تمتلك مؤسسات، لكنها تتحرك ضمن سقف دولي لا يسمح لها بامتلاك القوة التي تجعلها قادرة على الردع أو صدّ الهجمات أو منع تكرارها.
والسؤال الأكثر مرارة: كيف يمكن لدولة يُمنع عنها تطوير دفاعاتها الجوية أن تتحمل مسؤولية منع اختراق أجوائها؟ وكيف يمكن أن تبسط سيادة حقيقية على الأرض بينما السماء لا تزال نقطة ضعف تُستغل عند كل أزمة؟
المفارقة أن شعار “حصر السلاح بيد الدولة” يظل مطلبًا وطنيًا مشروعًا، لكنه ينهار عند أول اختبار: فالدولة التي لا تمتلك القدرة الكاملة على الدفاع عن سمائها، ولا تملك سوى هامش محدود للتسلّح، تبدو وكأنها محاصرة بين قوتين: قوة الفصائل داخليًا، وقوة القيود الخارجية التي تمنعها من بناء منظومة ردع متكاملة.
استهداف كورمور كشف هشاشة أمنية، لكنه كشف ما هو أخطر: أن العراق ما زال بلا قدرة ردع حقيقية، وأن فراغ القوة هذا هو الذي يسمح لكل الجهات -فصائل، دول، جماعات- باستغلال الثغرات نفسها. وحتى الآن، لا تبدو هناك إجابات حاسمة: من ضرب الحقل؟ ولماذا؟ وهل الهدف تعطيل الاستثمار، أم الضغط السياسي، أم إعادة رسم خريطة النفوذ على الغاز العراقي؟
لكن ما يبدو مؤكدًا أن العراق، ما لم يمتلك قوة تحميه، سيبقى ساحة مفتوحة لكل اللاعبين. فالهجمات ليست مجرد رسائل أمنية، بل مؤشرات على أن ميزان القوة في البلاد مختل، وأن الدولة تُطالَب بما لا يُسمح لها بامتلاكه.
وبينما تتزاحم الروايات، تبقى الحقيقة واضحة: العراق لا يحتاج فقط إلى كشف الجهة التي أطلقت الصاروخ أو سيّرت المسيّرة، بل يحتاج قبل كل شيء إلى ملء فراغ القوة… ذلك الفراغ الذي جعل سماءه مكشوفة، وسلاحه مقيّدًا، وسيادته محل اختبار دائم.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!