ابحث في الموقع

هجرة الفلاحين.. أزمة مياه وجودية تجبر العراقيين على ترك إرث الأجداد

هجرة الفلاحين.. أزمة مياه وجودية تجبر العراقيين على ترك إرث الأجداد
هجرة الفلاحين.. أزمة مياه وجودية تجبر العراقيين على ترك إرث الأجداد

يجلس أبو علي (60 عاما) الفلاح في إحدى القرى الزراعية بمحافظة ذي قار جنوبي العراق، قرب أرضه المتشققة التي كانت حتى وقت قريب، خضراء بالقمح والشعير، فيمرر يده على التربة اليابسة بحسرة ويقول: “هذه الأرض ورثتها عن أبي وجدي، وعشت عمري كله أزرعها وأطعم منها أولادي. اليوم صارت أرضا عطشى لا تعطينا سوى القليل، بعدما جفّت منابع المياه التي كنا نعتمد عليها”.

كان نهر الفرات يمد قرية أبو علي، بالماء الكافي لريّ الحقول وسقي المواشي، لكن النهر تغيّر مساره، وخفتت مياهه إلى درجة لم تعد تكفي إلا بالكاد للاستخدام اليومي.

تفاقم الأزمة لم يترك أثره على الأرض وحدها، بل وصل إلى العائلة نفسها، فأبناء أبو علي، الذين تربوا على حب الزراعة، بدأوا يفكرون بترك القرية والانتقال إلى المدينة بحثًا عن عمل آخر.

يعلّق بمرارة: “كنت أريد أن يستمر أولادي في مهنة أجدادهم، لكن ما الذي سأتركه لهم؟ أرض عطشى بلا محصول”.

وبينما يحاول الفلاحون في المنطقة التمسك بأرضهم رغم الظروف، يبدو أن الجفاف وسوء إدارة الموارد المائية يدفعهم تدريجيا للتخلي عن مهنة توارثوها جيلًا بعد جيل.

ويواجه العراق أزمة مائية غير مسبوقة تهدد حياته اليومية وأمنه الغذائي والطاقة الكهرومائية على حد سواء، فمياه دجلة والفرات، المصدر الرئيس للأنهار العذبة في البلاد، لم تعد كافية لسد احتياجات الزراعة والصناعة والاستهلاك البشري، نتيجة مشاريع السدود الكبرى في دول الجوار، وتحديدا تركيا وإيران، إلى جانب تأثيرات التغير المناخي والجفاف المستمر.

وفقد العراق رافدا كبيرا من موارده المائية نتيجة سياسات دول الجوار؛ حيث اتجهت تركيا لاحقا إلى تغيير نهجها في إدارة المياه، فوضعت عام 1957 خطة لبناء سد كيبان والذي تبلغ سعته الفعلية نحو 30 مليار متر مكعب.

وفي الوقت نفسه تقريبا، شرعت سوريا في إنشاء سد الفرات (الطبقة) الذي نتجت عنه بحيرة الأسد بطاقة تخزينية تقدر بنحو 10 مليارات متر مكعب.

ومع اكتمال هذين المشروعين في منتصف سبعينيات القرن الماضي، دخل العراق مرحلة جديدة في تاريخه المائي، عنوانها التحديات المتصاعدة في تأمين حصته من مياه الرافدين، فقد خسر أيضا جزءا مهما من روافده الأساسية لصالح إيران.

ورغم أن الضرر الأوضح ناجم عن الإجراءات التركية، فإن لإيران نصيبا من التأثير السلبي، تشير التقديرات إلى أن نحو 35 بالمئة من إيرادات العراق المائية تأتي من إيران.

الخلافات المائية بين بغداد وطهران ليست جديدة؛ إذ تعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي عندما غيّرت إيران مجاري بعض روافد دجلة. وبالرغم من توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 التي أنشأت لجنة مشتركة لإدارة المياه، إلا أن اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980 حال دون استمرارية الاتفاق.

سعي العراق إلى إيجاد حل دولي للأزمة، لم يدفعه لتفعيل مطالبات جدية أو تحشيد مواقف دولية حقيقية إلى الآن، واكتفى بالاتفاق سنويا مع تركيا حول كمية الإطلاقات المائية الداخلة إليه، وهذا ما ينتقده الكثير من المواطنين الذين يخرجون كل فترة في مناطق الأهوار والبصرة والسماوة مطالبين الحكومة بالتحرك جديًا في هذه القضية.

وقال وزير الموارد المائية، عون ذياب عبدالله، في تصريح سابق، إن العراق يواجه أزمة حادة في المياه، لافتا إلى أن المخزون المائي لا يتجاوز نسبة 8 بالمئة من طاقة التخزين الكلية.

‏‎وأكد ذياب، إن “أزمة المياه في العراق بدأت تتضح بشكل حاد وتنعكس مباشرة على حياة المواطنين، لاسيما في المحافظات الجنوبية”، مشيرا إلى أن “الموقع الجغرافي وضع العراق في موقف صعب كونه واديا منخفضا يتأثر بشدة بالتغيرات المناخية والاحتباس الحراري، فضلاً عن اعتماد العراق على مصادر مائية خارج حدوده”.

‏‎وأضاف أن “أكثر من 70 بالمئة من الموارد المائية للعراق تأتي من تركيا عبر نهري دجلة والفرات”، مبينا أن “قلة الأمطار والثلوج في السنوات الأخيرة، إلى جانب إنشاء تركيا مشاريع وسدودا وخزانات ضخمة، تسبب في تراجع حصة العراق المائية بشكل كبير”، موضحا أن “القطاع الزراعي يمثل المستهلك الأكبر للمياه بسبب اعتماد الزراعة في العراق على الري لغياب الأمطار الكافية”.

‏‎ونوه الى أن “الحكومة اتجهت خلال العامين الماضيين إلى إدخال تقنيات الري الحديثة كالري بالرش والتنقيط والتسوية الليزرية للأراضي، ما وفر نحو 30 بالمئة من المياه وزاد الحصيلة الزراعية بالنسبة نفسها”، متابعا أن “المخزون المائي المتوفر حاليا في السدود لا يتجاوز 8 بالمئة من طاقة التخزين الكلية”.

من جانبه، يقول عضو لجنة الزراعة في البرلمانية، النائب رفيق الصالحي، إن البلاد تواجه تهديدا خطيرا بعدما اضطرت وزارة الزراعة إلى تقليص خططها الزراعية في مختلف المحافظات نتيجة شحّ المياه، الأمر الذي يضع الأمنين الغذائي والمائي أمام مخاطر جدية”.

وفيما يدعو الصالحي، الحكومة إلى التحرك العاجل والحازم مع الدول المتشاطئة، وفي مقدمتها تركيا وإيران، لضمان التزامها بالاتفاقيات الدولية والإقليمية الخاصة بتقاسم المياه وتثبيت حصة العراق بشكل واضح، يحذر من أن استمرار التجاهل قد يفرض اللجوء إلى تدويل الملف”.

ويضيف أن “الأزمة لا تنحصر في تراجع المياه المخصّصة للزراعة، بل طالت إنتاج الطاقة الكهرومائية، وأسهمت في تفاقم جفاف الأهوار، وانحسار الثروة السمكية، ودفع آلاف الأسر إلى النزوح بسبب فقدان مصادر المعيشة.

ويشدد عضو لجنة الزراعة في البرلمانية، على أهمية “تبني سياسات داخلية صارمة لإدارة المياه، أبرزها التوسع في تقنيات الري الحديثة، واستصلاح الأراضي بطرق تقلل الهدر المائي، إلى جانب تشجيع المزارعين على تغيير أنماط الزراعة بما يتناسب مع الظروف الحالية، كونه يعد هذا الحل هو الأنسب للخلاص من تلك الأزمة”.

وفيما يؤشر مختصون انعدام المشاريع الحكومية المجدية، يؤكدون أن الحل يكمن في الاتفاقات السياسية، وتفعيل أوراق الضغط العراقية على الدول المتشاطئة، في ظل واقع صعب يفرض على العراق إعادة التفكير في إدارة الموارد المائية وتبني حلول عاجلة ومستدامة.

من جهته، يرى الخبير في شؤون المياه، عادل المختار، أن “معالجة أزمة العراق المائية تتطلب حلولا شاملة تبدأ من الداخل ولا تنتهي عند حدود الجوار”.

ويردف المختار، أن “البلد يحتاج إلى إصلاح شبكات الإسالة المتهالكة التي تهدر ما يقارب نصف الموارد، واعتماد تقنيات الري الحديثة كالري بالرش والتنقيط، إلى جانب تقليل زراعة المحاصيل الشرهة للماء مثل الرز والقصب، كما أن مشاريع التحلية في الجنوب واستثمار المياه الجوفية وبناء سدود صغيرة لتجميع مياه الأمطار والسيول تمثل بدائل ممكنة لتعويض النقص”.

ويؤكد أن “العراق لا يملك خيارا سوى الدخول في مفاوضات جادة مع تركيا وإيران وسوريا لتوقيع اتفاقيات ملزمة لتقاسم المياه وفق القانون الدولي، مع تفعيل الدبلوماسية المائية عبر الأمم المتحدة والجامعة العربية”، مبينا أن “التغير المناخي يفرض واقعا جديدا يستوجب برامج للتكيف، تشمل مراقبة معدلات الجفاف، وتطوير مصادر بديلة للطاقة، ودعم الأبحاث المحلية”.


المصدر: العالم الجديد

التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!