بقلم: القاضي إياد محسن ضمد
ليست النصوص القانونية مجرد مواد جامدة محفوظة في المتون، بل هي أدوات مؤثرة تنبض بالفاعلية والحياة وهي أشبه بالكائنات، وهذه الكائنات القانونية تتنفس وتحيا عند تفسيرها وتطبيقها. وبين نية المشرع الذي صاغ النص وشرعه ونية وتفسير القاضي الذي يعمل على تطبيقه يعيش النص القانوني حياته العملية ويتحدد مدى تأثيره بأرواح الناس وحقوقهم وحرياتهم.
وان كانت نية المشرع تقتصر على الغرض الأصلي الذي وضع النص القانوني لأجله فان نية القاضي الذي يطبق النص القانوني هي الاهم لأنها تحدد كيفية إدارة النص القانوني وقيادته نحو تحقيق أهدافه وتحدد كذلك مساحات ومديات تطبيقه على أرض الواقع، ضيقا واتساعا.. نية المشرع قد تكون غامضة وتعجز عن مواكبة التطورات المعقدة التي يشهدها الواقع ما بعد التشريع، وقد تغيب المذكرات التفسيرية التي رافقت وضع النص أو يصعب الحصول عليها فتتعذر معرفة غاية التشريع بخلاف نية وفهم وتفسير القاضي الذي يطبق النص القانوني إذ تكون ملائمة مع ظروف الواقع وقادرة على مواكبة التطورات وتحقيق مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.
واذا جاز لي أن اشبه النص القانوني بالحيز او الدائرة سواء العقابية للتجريم او الحقوقية للمنح والحماية، فالقاضي هو الذي يحدد من يدخل هذه الدائرة من الأفراد ومن يخرج منها اذا شاب النص القانوني غموض او قصور في الصياغة، فالقاضي هو المهندس القانوني للنصوص فحين يكون النص القانوني غامضًا، ناقصًا، أو صامتًا أمام حالة واقعية مستجدة، لا يمكن ترك الأفراد رهينة لجمود النص، بل لابد من تدخل القاضي لِيُحدّد من يُدرجه داخل نطاق العقاب أو الحماية، ومن يُخرجه لأن النص لا يشمله، أو لا يجوز تأويله ضدّه.
فلو نصّ القانون على “تجريم الإخلال بالحياء العام”، دون تعريف دقيق، فإن القاضي هو من يقرّر:
- هل أن رقصا فرديا في مكان عام يُعدّ إخلالًا؟
- وهل أن ارتداء لباس معين يُشكل انتهاكا؟
هنا، نية المشرّع لم تُعرّف التفاصيل، بينما نية القاضي هي التي تحدّد حدود هذه “الدائرة العقابية” الواقعية، وخذ مثلا نصوص قانون العفو العام رقم ٢٧ لسنة ٢٠١٦ وتعديلاته فالكثير من النصوص لم تكن واضحة بشمول او عدم شمول بعض الجرائم بقانون العفو المذكور فجريمة المتاجرة بالمخدرات شملت شرط أن لا تزيد الحيازة عن خمسين غراما وواجهت المحاكم حالات الاعتراف بالمتاجرة بكميات كبيرة دون أن يكون هناك ضبط لمواد مخدرة وهي حالة لم يعالجها قانون العفو العام وتكفلت قرارات المحاكم بمعالجتها وتحديد نطاق انطباق قانون العفو العام عليها وغيرها من الجرائم الأخرى التي كانت النصوص القانونية غامضة بشأنها إلا أن الهندسة القضائية للنصوص وما رافقها من تفسيرات تطبيقية هي من حددت مديات سريان النصوص القانونية ضيقا واتساعا.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!