RSS
2025-12-15 16:22:35

ابحث في الموقع

ازدراء القضاء عبر المنصات الرقميَّة

ازدراء القضاء عبر المنصات الرقميَّة
ازدراء القضاء عبر المنصات الرقميَّة

بقلم: د. حسين المولى


مع التقدم الهائل في استخدام المنصات الرقميَّة ووسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد هذه الوسائط حكرًا على الترفيه أو التعبير عن الرأي، بل أصبحت ساحات لصناعة الرأي العام، وأحيانًا ميدانًا لتصفية الحسابات والهجوم على المؤسسات، وفي مقدمتها المؤسسة القضائية، التي تمثل أحد أعمدة الدولة وسيادة القانون.

من الطبيعي في أي نظام ديمقراطي أن تتسع مساحة النقد، حتى تجاه الأحكام القضائية، لكن الفارق الجوهري يكمن بين النقد المهني الذي يُبنى على أسس قانونية، وبين الازدراء والإهانة التي تمس هيبة المحكمة وشخص القاضي، فحرية التعبير لا تشمل التشهير أو التحريض على فقدان الثقة بالقضاء، لأن ذلك يقوض أهم دعائم العدالة، ويهدد السلم الاجتماعي.

ما نشاهده يومياً بتحول المنصات الرقميَّة إلى بيئة خصبة لارتكاب العديد من الجرائم، ومنها جريمة ازدراء القضاء، ويظهر ذلك جليًا من خلال حملات موجهة تطعن في نزاهة المحاكم، أو تشكك في قراراتها، أو تتعرض للقضاة بالشتم أو التهديد، ورغم أن الخلاف مع حكم قضائي حق مشروع، إلا أن ذلك لا يبرر التعدي على المؤسسة القضائية بكاملها.

وما نلاحظه يوميًا في منصات التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية يمثل استهانة خطيرة بالمحاكم وقراراتها، وهو أمر إذا تُرك دون مساءلة، فإنه يؤدي إلى زعزعة ثقة المواطن في العدالة، ويكرّس الفوضى القانونية.

عالج قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 هذا النوع من الجرائم في المادة (226) التي نصت على أن يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أهان بإحدى طرق العلانية محكمة قضائية أو إدارية أو مجلسًا أو أحد أعضائه أثناء تأدية واجباتهم أو بسببها.

وهذا نص صريح في حماية القضاء من الإهانة والتجريح العلني، بما في ذلك ما يُنشر على المنصات الرقمية، شريطة أن تتوافر أركان الجريمة الرقمية من حيث القصد الجنائي العلني وعلانية الوسيلة.

ولم تكن التجربة العراقية استثناءً، بل هناك أمثلة عديدة في الأنظمة القضائية المقارنة التي اتخذت مواقف صارمة في الولايات المتحدة، أمر قاضي ولاية نيويورك "آرثر إنغورون" الرئيس السابق دونالد ترامب بدفع غرامة مالية قدرها 110 آلاف دولار، بسبب امتناعه عن الالتزام بأوامر المحكمة، واعتُبر في حالة ازدراء للمحكمة.

أما في روسيا، فقد قضت محكمة استئناف موسكو بثبيت حكم الإدانة ضد المعارض البارز "ألكسي نافالني"، ليس فقط بسبب قضايا الاحتيال بل أيضًا بسبب إهانة القضاء، وحكمت عليه بالسجن 9 سنوات، مع تنفيذ فوري للعقوبة.

إن الواجب يفرض على الجهات القضائية، وفي مقدمتها مجلس القضاء الأعلى، اتخاذ مواقف حازمة من هذه الظاهرة، عبر تفعيل النصوص العقابية ضد من يتجاوز على القضاء عبر المنصات الرقمية، كما ان رصد المحتوى الرقمي الذي يتضمن إساءة للمحاكم أو القضاة يكون من خلال تعاون الجهات الرقابية، ومن خلال التنسيق مع الهيئات الرقابية وهيئة الإعلام والاتصالات للحد من إساءة استخدام المنصات الرقمية.

إن ازدراء القضاء ليس فقط جريمة قانونية، بل هو انحدار أخلاقي يُضعف الثقة بمؤسسة العدالة، ويهدد سيادة القانون، النقد البنّاء والتقويم المهني للقضاء مرحب بهما، لكن التعدي والتشهير لا مكان لهما في مجتمع يحترم دستوره ومؤسساته.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!