
بقلم: قاسم حول
في العاشر من شهر محرم الحرام من العام 61 هجرية، وفي مشهد جلل أتت العقيلة زينب بالفرس الأبيض وأعطته لأخيها الحسين “عليه السلام” وهما في ساحة الطف. قالت له “عندما كنت صغيرة قالت لي أمي أذا رأيت الحسين وحيداً في كربلاء. قبليه في نحره”..! وقبلته في نحره..
توجه الحسين على فرسه الأبيض نحو معسكر الأعداء كما الحلم في لوحة سماوية، فيما التفتت العقيلة زينب نحو الأفق وصاحت مثلما هي في ذات الحلم “أماه.. نفذت وصيتك”..!
وقف الإمام الحسين أمام جيش الأعداء وصاح بهم “أيها القوم.. إن كنتم لا تؤمنون بالله وباليوم الآخر فكونوا أحراراً في دنياكم.. !”
فعلت مقولة الإمام الحسين بالأعداء فعل السيوف التي تتهاوى وحدها على رقاب الأعداء.. فتقاتلوا مع بعضهم.. وانهزم الكثيرون من ساحة المعركة وصار عمر بن سعد والشمر بن ذي الجوشن يصرخان بالجيش الذي تمرد وخاف وانهزم.. “ويحكم اجمعوا صفوفكم”..! بعد حين لم يبق من جيش العدو سوى نفر منهم، قال شمر بن ذي الجوشن:
– ويحكم.. ألا يبارزه أحد منكم؟
وتقدم شمر بن ذي الجوشن وهمس في أذن “حرملة” الذي وضع النشاب في القوس وأطلقة نحو الحسين فأصابة في خده. مد الحسين يده وسحب السهم، ونزل من حصانه جاثيا على ركبتيه، ورفع يديه نحو السماء وهو في شبه غيبوبة يناجي ربه “اللهم متعالي المكان، أدعوك محتاجا وأرغب إليك فقيرا وأفزع إليك خائفا وأبكي مكروبا وأستعين بك ضعيفا وأتوكل عليك كافيا يا أرحم الراحمين”.
صوب حرملة سهما آخر أصاب الحسين عليه السلام في نحره والحسين جاثما على ركبتيه وصار الدم ينزف من رقبته. مزيداً من الجند يفرون. ثلاثة من الجند أحاطوا بالحسين. الجند يتقدمون شاهرين سيوفهم. صاح الشمر بهم “ويحكم ما تنتظرون؟ اقتلوه، ثكلتكم أمهاتكم”. الجند يتقدمون شاهرين سيوفهم. صاح الحسين وهو يرى السيوف تمشي نحوه مسرعة تارة مترددة تارة أخرى، فصاح بقلب مؤمن:
إن كان دين محمد لن يستقم إلا بقتلي.. يا سيوف خذيني.
الحسين وهو يشعر بالتعب.. أجفانه تذبل ناعسة. ينظر للجند المتقدمين نحوه فيراهم كتلا غيمية ولكن سيوفهم واضحة، وشاهد القاتل سنان بن أنس النخعي بشكل واضح وهو يطعنه في ظهره وتدفق من ظهره الدم. ولم يبق قريبا منه سوى سنان النخعي ومعه خولي بن يزيد.
شمر بن ذي الجوشن، يزداد نهما في القتل ويصيح بخولي بن يزيد “يا خولي بن يزيد. إحتز رأسه”. خولي يخرج سكينا كما سيف قصير، لكنه ارتعد خوفا، فصاح به الشمر “فت الله عضديك وأبان يديك”. إرتعد خولي وهرب خائفا. لم يبق قرب الحسين سوى سنان النخعي الذي كان طعنه بالرمح، فأخرج سكينا وهو يتطلع إلى وجه الإمام الحسين الذي بدا كما لو كان مغمى عليه.
وجهه المخضب بالدم والتراب، وشعر جدائله مسجاة على وجهه الكريم. سنان يرفع السكين الثقيلة بكلتي يديه ويفصل الرأس عن العانق. ينظر نحو كف الحسين فيرى خاتما في خنصره. يمسك بيد الحسين فيتعذر عليه سحب الخاتم من الخنصر، يخرج سكينا ويقطع خنصر الحسين ويسحب الخاتم من الخنصر. يهرب الجند. تسود الفوضى ساحة الطف وهم يهربون في كل الجهات. فيصيح بهم عمر بن سعد ويحكم.. اجمعوا صفوفكم. فيما سنان النخعي يقفز ويصرخ كالمجنون ويصرخ:
أوفر ركابي فضة وذهبا… أنا قتلت الملك المحجبا.
قتلت خير الناس أما وأبا.. وخيرهم إذ ينسبون نسبا
يقصد بالملَك المحجب.. الملاك المحجب!
عمر بن سعد يقول لشمر بن ذي الجوشن “أشهد أن الرجل قد جن” فيحمل عصاه المدججة بالحديد والقير، ويضرب سنان على رأسه ويرديه قتيلا.
كأن يداً من وراء الضريح.. حمراء مبتورة الإصبع – الجواهري
تقدمت زينب، نحو جسد الإمام الحسين.. نظر إليها واحد من الأعداء. سأل صاحبه “من هذه المرأة التي جاءت كالشمس” أجابه الثاني “زينب”! وقفت زينب إلى جانب أخيها الحسين وقد فصلوا رأسه عن جسده. رفعت رأسها إلى السماء وصاحت “اللهم تقبل منا هذا القربان”!
فرغت الساحة سوى من بقايا خيام تحركها الريح واجساد الشهداء مسجاة على تراب الطف.. تغير لون الطبيعة حقيقة لا مجازاً.. إصفر لونها، ثم أحمر لونها، لون الحياة.. لون السماء ولون الأرض.. جاء الشاعر سليمان بن قتة وحده يبكي الحسين وصار ينشد:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة.. بفقد حسين والبلاد إقشعرت!
وكانوا رجاء ثم صاروا رزية…… لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وعند غني قطرة من دمائنا……….. سنطلبها يوما بها حيث حلت
حمل الأعداء رؤوس الشهداء على الرماح وهم يمتطون الجياد يتقدمهم رأس الإمام الحسين على الرمح. وفي وسط الركب سبايا الطف بينهم زينب والرباب وزين العابدين والأطفال.. كان الوقت خريفا فقد صادف العاشر من محرم الحرام سنة 61 هجرية، يوم الثلاثاء الثاني عشر من شهر تشرين أول سنة 680 ميلادية.. في ذلك النهار تداخلت ألوان الطبيعة والحياة، صفراء حمراء وقد خرج الناس في مواجهة ركب السبايا، يتفرجون على المشهد الجلل وهم بين مندهش، مستغرب، وبارد الحس ومنهم من يضحك من دهشة الرؤوس المدماة فوق الرماح ومنهم من رأى الحسين وجها لوجه أول مرة.. في تلك اللحظة ندت السماء مطراً.. إبتلت رؤوس الشهداء وهي على الرماح، وسال الدم الجاف يبلل الوجوه وينقط الدم على أجساد الخيول مازاد المتفرجين اندهاشا. فصاحب بهم زينب:
أتعجبون لو أمطرت دما..
رفع المندهشون أطراف يشامغهم.. وغطوا وجوههم.. ونزفت عيونهم دمعا..
فأكملت زينب القول:
ألا فأبكوا كثيراً.. ومشى ركب السبايا متوجها نحو الشام.. وانتهت الفاجعة الزمنية.. فاجعة استشهاد فيها الإمام الحسين عليه السلام وعليه الصلاة وإليه الحب والوجد الصافي النظيف.
لم تدرك الأجيال.. ولم يعرف الرجال فاجعة الطف وندرة العشق الإلهي.. ربما بقيت قصيدة سليمان بن قتة ماثلة وحدها في التاريخ، حين عرف باستشهاد الإمام الحسين أن الطبيعة فقدت ركنا من أركانها بين النواويس وكربلاء، فتغير لونها وإرتجفت الأرض.. هذا هو عراق الحسين الذي لا يزال وطنا ينزف دما وينزف دمعا ولا يتوحدان، فالدم يسري في الفرات أحمر لونه، والدمع يسري في دجلة أزرق لونه، وحين يتوحدان يصبان في البحر العظيم دون أن يغير أحد مسار شط العرب ليروي بساتين النخيل وقد احتزت قوى فاشية رؤوس نخيل العراق لتذكرنا بالفاجعة، أنها لا تزال قائمة.. يخرج الناس يضربون بأكفهم على صدورهم والنسوة يبكين الحسين كل عام في شهر محرم الحرام.. وبعد عشرة أيام ينسون الفاجعة الدموية وعمق تأثيرها الضارب في عمق التاريخ، وينسى هدف النهضة الحسينية وسعتها وشكل مسارها وعدالتها، ونظامها الإنساني، وينسون آذانها الذي يبارك العمل الخير والهادف “حي على خير العمل” أن يباركوا عمل الخير فحسب، وصرتم تباركون كل عمل فاسد وشرير، تنهبون خيرات الوطن وتهدرون أرض الوطن، وتهربون المال للكيانات المغتصبة وتفتحون أزرار حدودكم بصدر رحب ليستقر في أروقتكم دين الكيان الإبراهيمي وأنتم صاغرون مرحبون، حتى يأتي عام ثان وعام آخر وآخر، وتمشي المواكب لعشرة أيام تدك الأكف صدور الرجال وخدود العذارى يبكين العقيلة زينب، وصوتها يبقي يتردد صداه كل عام في عاشوراء الطف “أتعجبون لو أمطرت دما.. ألا فأبكوا كثيرا..!”.
أقرأ ايضاً
- البرلمان العراقي بين الوهم والواقع.. نواب بلا مشروع ومقاعد بلا وظيفة
- ويسألونك عن نضوب النفط ما العمل ؟
- الحُسَينُ نِعمةُ الوُجوُد