أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون مركبة تتجول في شوارع العاصمة بغداد ملوثة البيئة بعوادم سيارتها ولاسيما التي رفعت عنها احجار البيئة سواءً بالسرقة الشائعة او حتى بعلم أصحابها، دون أي إجراء حكومي رادع.
“أشعر بأنني شخص معاق” هذا ما يقوله أحمد حسين علي (39 سنة) فني في جامعة بغداد ويسكن شرقي العاصمة بغداد (مدينة الصدر) وهو أب لثلاث أولاد، مصاب بمرض الربو والتهاب القصبات الهوائية المزمن.
يقول وهو يحمل جهاز التنفس الاصطناعي (يعمل على الكهرباء) مع دواء موسع للقصبات، بأنه يضطر للذهاب إلى العمل في الساعة الخامسة صباحا على الرغم من أن دوامه يبدأ في الساعة الثامنة صباحاً.
وكذلك الحال بعد انتهاء الدوام، ينتظر لثلاث ساعات أو أكثر، قبل ان يسلك طريق العودة، تجنبا للزغم المروري في شوارع العاصمة وما تخلفة محركات السيارات من غازات تسبب لي اختناقاً وتدهوراً لوضعه الصحي.
اخلاص صادق (أم احمد) (46 سنة) هي الأخرى تعاني من مرض مزمن في جهازها التنفسي لم تكن تعلم أن سكنها وسط العاصمة بغداد قرب أحد الشوارع الرئيسية بمنطقة الكرادة داخل التي تشهد زخماً مروري مستمراً سيكون له الاثر الكبير في تغيير حياتها والاضرار بصحتها ويضع بصمتع على نمط حياتها.
إذ تجبر بسبب مرضها على المكوث أياماً واسابيع في محجر صحي اعدته في منزلها أو الذهاب الى المستشفى ومرافقة اجهزة التنفس الاصطناعي بشكل مستمر.
تقول أم أحمد وهي ربة بيت بأنها تعرضت لنوبات تدهور في وضعها الصحي لأكثر من ثلاث مرات خلال تواجدها في سيارات النقل العامة كيا (حافلة صغيرة للنقل العام): “بسبب كثرة السيارات شعرت بضيق في التفس وقلة الهواء وفقدت الوعي، فقام سائق الكيا ومعه عدد من الركاب بإصطحابي الى المستشفى، لذلك حددت اوقاتاً معينة لخروجي من المنزل لاتشهد فيها الشوارع زحاماً كثيراً”.
سنكشف من خلال هذا التحقيق كيف تسهم المركبات في الإخلال بمركبات الهواء الطبيعي وإحداث تلوث بيئي في العاصمة بغداد ولا سيما التي سرقت احجار البيئة من عوادمها، الامر الذي يتسبب بأمراض واضرار بيئية جسيمة على المجتمع، ولاسيما الذين يعانون فيه من مشاكل وامراض في الجهاز التنفسي.
ونسعى إلى الضغط على الجهات المعنية لأجل اصدار قانون ينص على إلزام وجود احجار البيئة في جميع السيارات والمركبات لغرض التقليل من انبعاثات الغازات الملوثة وحماية المواطنين من الامراض الناتجه عن التلوث.
وحجر البيئة عبارة عن مادة خزفية عالية الدقة تصنع من مزيج من المعادن والخزف على شكل خلايا نحل وظيفتها تنقية غازات العادم وامتصاص الضار منها لغرض تقليل التلوث البيئي، يسرق من السيارات بطرق مختلفة في العراق، وهنالك سوق رائجة لبيعه وشرائه بعيداً عن الرقابة الأمنية.
أمراض الجهاز التنفسي
وفقا للتقرير الاحصائي السنوي الذي يصدر من وزارة الصحة العراقية بلغت اعداد المصابين بأمراض الجهاز التنفسي (334010) مراجع في مستشفيات العاصمة بغداد والمحافظات الاخرى اي بمعدل بلغ (13.05) مقارنة بالامراض الاخرى .
أحمد أياد (29 سنة) واحد من بين كثيرين تضرروا جراء تلوث الهواء في العاصمة، إذ يرافقه جهاز التنفس الاصطناعي المحمول (الاوكسجين) عند خروجة من منطقته الكرادة الى منطقة أخرى، فهو يعاني من مرض الربو (مرض يصييب الجهاز التنفسي مما ينتج عنه صعوبة في التنفس والسعال المستمر).
يقول بأن أعراض المرض بدأت عليه قبل نحو عشر سنوات، ولا سيما في فصل الصيف، وأن حالته الصحية تدهورت لمرات عديدة في مناطق مكتظة ومزدحمة مرورياً، لذلك يضطر للمكوث في المنزل.
وقد اجبر على شراء قناني الأوكسجين، مما ينتج عنه مضاعفات سلبية مع الاستمرار بالإعتماد عليها، هذا فضلاً عن معاناته مع تدهور وضعه الاقتصادي.
وفقاً لمتخصصين فأن أحمد وسواه من المصابين بأمراض تنفسية، يمكن تجنيبهم مضاعفات أمراضهم أو كان بالوسع تجنيبهم المرض بدرجة كبيرة لو أن الجهات المختصة فرضت رقابة صارمة على مصادر التلوث ومنها المركبات التي رفعت عنها أحجار البيئة.
بيع وشراء احجار البيئة دون رقابة
تتفاقم ظاهرة بيع وشراء أحجار البيئة في الاسواق السوداء عند اصحاب الورش الصناعية أو عبر صفحات عديدة في مواقع التواصل الاجتماعي دون رقابة او متابعة من الجهات ذات العلاقة.
وللتأكد من عمليات البيع تلك تواصلنا مع أحد اصحاب الارقام المنتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، بشأن شراء احجار البيئة، وقيمتها في الأسواق السوداء. واجابنا قائلا “نحن نشتري احجار البيئة حسب النوع والحجم ومدى سلامتها، فهناك انواع تصل قيمتها الى أكثر من (500) دولار”.
وللإطلاع عن كثب على عمليات بيع وشراء أحجار البيئة غير القانونية، جال معد التحقيق منطقة حي الصناعة وسط العاصمة بغداد، وقابل أحد أصحاب الورش الخاصة بصيانة عوادم السيارات أو ما تسمى في العراق (الصالنصات).
وقال بأن الكثير من السيارات تسرق منها احجار البيئة، فيؤدي ذلك إلى “عدم الإحتراق الكامل للوقود ويسبب مشاكل في محرك السيارة وخروج ادخنة من العوادم بنحو مباشر الى الهواء”.
يقول زبون تواجد في ورشة تصليح عوادم السيارات، أنه اشترى قبل أكثر من سنة سيارة وجلبها لذات المكان من أجل الصيانة، ولاسيما أن المحرك كانت به مشكلة وحرارته ترتفع بنحو مبالغ فيه، ليكتشف بان حجر البيئة مسروق منها.
وعند سؤاله عن سعره، وجد انه يكلف (550) دولاراً مع أجور العمل، ولأنه كان مبلغاً كبيرا بالنسبة إليه، ترك سيارته بدون حجر بيئة، وقال عن ذلك:”لم أجد ضرورة لإنفاق كل ذلك المبلغ على حجر البيئة، خصوصاً ان الكثير من السيارات الأخرى ليس فيها حجر بيئة، وتسير في الشوارع دون مشاكل قانونية”.
مخاطر صحية
يقول الدكتور حسين جبار، رئيس قسم الهندسة البيئية في جامعة بغداد ان الغازات الناتجة عن عوادم السيارات تسبب العديد من: ”الأمراض التنفسية، وسرطان الرئة، والامراض القلبية والأمراض العقلية وغيرها كما لها تأثير كبير على جودة الهواء اذ تسبب في زيادة تلوثه وزيادة الاحتباس الحراري”.
ولغرض اثبات فرضيتنا والتحقق من الاسئلة التي طرحناها، توجب علينا اجراء فحوصات ميدانية وأخذ عينات من أماكن الزخم المروري في العاصمة بغداد برفقة فريق متخصص برئاسة الدكتور حسين جبار رئيس قسم الهندسة البيئة.
من خلال استخدام اجهزة كشف التلوث المتخصصة، وايضا اجراء مقارنة بين نتائج لسيارة تحمل حجر البيئة (فلتر الهواء الموجود في عادم السيارة) وسيارة أخرى لا تحتوي على حجر البيئة.
واظهرت نتائج الفحص الميداني الذي أجري وجود تلوث ملحوظ وطفرة كبيرة في نسب مسببات التلوث الهوائي بين السيارات التي تحتوي على فلتر الهواء واخرى لا تحتويها.
إذ أشارت النتائج ارتفاع نسبة الدقائق العالقة ذات الحجم (2,5) بارتفاع بنسبة بلغت (400%) وهي تعد من أخطر مسببات للتلوث الهوائي، الناجمة عن عوادم السيارات التي ليس فيها حجر بيئة بالمقارنة مع السيارات التي تحتوي على أحجار البيئة (فلتر الهواء).
اما بالنسبة للدقائق التي يبلغ حجمها (10 مايكرون) ترتفع وفق نتائج البحث بنسبة (558 %) عن السيارات التي تحتوي على احجار البيئة وايضا بالنسبة للدقائق الكلية ترتفع وفقا لنتائج البحث بنسبة (85%).
ولمعرفة التاثير المباشر للسيارات وعملية احتراق الوقود مع عدم وجود احجار البيئة في الكثير من السيارت توجه معد التحقيق الى عدد من التقاطعات المرورية في العاصمة لإجراء بحث ميداني، للمقارنة بين حالة الهواء وجودته بوجود زخم مروري ثم اجراء فحص اخر لجودة الهواء مع عدم وجود الزخم المروري.
فأظهرت نتائج الفحص البحث الميداني ارتفاع كبير بنسب ملوثات الهواء في التقاطعات التي تشهد زخماً مرورياً مقارنة بالتقاطعات التي لم يكن فيها زخم مروري.
أقر مجلس الوزراء العراقي في (2021) وثيقة الإسهامات المحددة وطنيا لجمهورية العراق بشأن تغير المناخ والتي تنص على انضمام العراق الى اتفاقية باريس للمناخ.
وتنص اتفاقية باريس وفقا للأمم المتحدة “تبنت (197) دولة اتفاق باريس في مؤتمر الأطراف 21 في باريس في 12 كانون الأول 2015. دخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد أقل من عام، ويهدف إلى الحد بشكلٍ كبير من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية والحد من زيادة درجة الحرارة العالمية في هذا القرن إلى درجتين مئويتين مع السعي إلى الحد من الزيادة إلى 1.5 درجة”.
العراق والمعاهدات الدولية
بحسب وثيقة الاسهامات المحددة التي أعدت وفقا لمتطلبات الاتفاقية الاطارية للمناخ واتفاقية باريس للمناخ يطمح العراق الى تنفيذ مساهماته المحددة وطنيا للفترة الزمنية من 2021 لغاية 2030 الى تحقيق خفض متوقع بين 1% – 2 % من مجمل الإنبعاثات وفقا للجرودات الوطنية للغازات الدفيئة بالجهد الوطني.
و 15 % عند توفر الدعم الدولي المالي والفني وتحقيق الأمن والسلام وفقا للمسارات والتوجهات التي حُددت في هذه الوثيقة وبما يضمن تحقيق المنافع المشتركة لتمكين قطاعاته الهشة من التكيف مع الآثار الضارة لتغير المناخ وبعد ان يتمتع شعبه بتوفير الطاقة الكهربائية ولمدة 24 ساعة في اليوم أسوة بشعوب العالم .
القانون وتلوث الهواء
يمنع قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) المنشور في جريدة الوقائع الرسمية لسنة 2009 في المادة (15) من الفرع الثالث ما يأتي :
- انبعاث الادخنة أو الغازات والابخرة أو الدقائق الناجمة عن عمليات انتاجية أو حرق الوقود الى الهواء الا بعد اجراء المعالجات اللازمة بما يتضمن مطابقتها للتشريعات البيئية .
- منع استخدام مركبات او عجلات ينتج عنها عادم اعلى من الحدود المسموح بها في التشريعات الوطنية.
ولكن وعلى الرغم من وجود قوانين تحد من الانبعاثات الناتجة عن احتراق الوقود في المركبات والسيارت الا أن من الواضح من خلال الإطلاع على الوضع في شوارع بغداد انها غير مفعلة. فدخان السيارت والمركبات يخيم على أجواء العاصمة ولا سيما في أوقات الزخم المروري اي بعد انتهاء الدوام في المؤسسات العامة.
يقول الخبير البيئي محمد أحمد نجم الدين، ان حجر البيئة المتواجد في عوادم السيارات، يحتوي على معادن ثمينة وهي تساعد على تحويل الاكاسيد غير المحترقة الى اكاسيد محترقة احتراقا تاما، فتحول غاز (c إلى co أو إلى co2) وتحول اكاسيد النايتروجين الى الحالة المستقرة.
ويتابع:”تكمن خطورة عدم وجود احجار البيئة ليس بكونها مصدر ثابت للانبعاث بل كون السيارات تتجول في المدينة وتساهم في انتشار التلوث في انحائها.
ولغرض معرفة اجراءات الحكومة والجهات المعنية باشتراط وجود احجار البيئة في السيارات، وسرقتها منها، تواصل معد التحقيق مع الناطق الرسمي باسمها أمير علي حسون، عبر اتصال هاتفي.
إلا أنه لم يجب عن الأسئلة التي طرحت عليه، ولا سيما المتعلقة منها باجراءات وزارة البيئة في رصد ظاهرة عدم وجود احجار البيئة في عوادم السيارات ببغداد، وما يمكنها القيام به لمنع تفاقمها والحد منها.
وحاول معد التحقيق معرفة رأي رئيس قسم مراقبة جودة الهواء في وزارة البيئة علي جابر، عن ذات الأمر، إلا انه امتنع هو الآخر عن الإجابة، وقال بأن الموضوع من اختصاص قسم الكيمياوات والمواقع الملوثة “كونه يمثل تداول وتجارة مواد كيمياوية أو مخلفات قد تكون خطرة”.
وعندما تواصل مع التحقيق مع مدير قسم الكيمياويات في وزارة البيئة، لؤي جابر، ادعى بدوره أن الأمر ليس من اختصاص قسمه، بل هو من اختصاص قسم مراقبة جودة الهواء!.
ويذكر أن علي جابر، مدير قسم جودة الهواء في الوزارة كان قد ذكر في تصريح نشرته وكالة الأنباء الوطنية في 25 تشرين الثاني 2023، ان انبعاثات عوادم السيارات تشكل ما نسبته 60% من نسبة التلوث البيئي في العاصمة.
التملص من الإجابة عن الأسئلة المتعلقة باحجار البيئة، افصح عن قصور واضح للدور الحكومي في التعامل مع مصدر كبير للتلوث، والإمتناع عن التعليق لم يقتصر فقط على الموظفين في وزارة البيئة، بل أيضاً موظفون في مديرية المرور العامة تجنبوا الخوض في الموضوع.
إذ تواصل معد التحقيق مع الناطق باسم المديرية المقدم محمد، ولثلاثة مرات متتالية، وساله عن اجراءات مديرية المرور للحد من ظاهرة عدم وجود احجار البيئة في عوادم الكثير من السيارات.
ومدى امكانية اصدار تعليمات تلزم اصحاب تلك السيارت بضرورة وجودها ضمن الفحص الدوري للسيارت أو ما يعرف في العراق بـ(الهزة) لكنه لم يعلق على أي شيء من ذلك، على الرغم من تكرار الأسئلة عليه.
وتظهر نتائج تخلي الجهات المعنية عن مسؤوليتها في متابعة توافر الشروط البيئية في السيارات، وأهمها وجود حجر البيئة، بنحو جلي من خلال تفاقم مشكلة المصابين بأمراض تنفسية. مع احتمالية أصابة الآلاف من سكان العاصمة بغداد بأمراض مختلفة.
ينظر غانم جهاد (51 سنة) مهندس من بغداد، إلى الزحام الخانق في منطقة الشورجة وسط العاصمة، ويقول بأن آلافاً من السيارات “تطلق سمومها في الجو ويستنشقها الناس دون ان يدروا بأنهم معرضون لمخاطر صحية بعضها مميت”.
ويرى بأن على المنظامت المعنية بشؤون البيئة القيام بحملات توعية عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، للضغط على الحكومة ووزاراتها المختصة لمعالجة ما وصفه بالثغرة البيئية المتمثلة برفع حجر البيئة من عوادم السيارات وحظر بيعها إلا من قبل متاجر متخصصة لمنع سرقتها وتداولها.
المصدر: شبكة نيريج
أقرأ ايضاً
- نينوى تخسر 40% من أراضيها الزراعية بسبب الاستثمار الجائر والتوسع العمراني
- بطاقات الدفع الإلكتروني نقطة تحول إيجابية.. وباب يكبد المواطن خسائر بسبب الاحتيال والخلل التقني
- مصور:صاحبات القلوب الرحيمة : نساء كبيرات بالسن في منطقة الماجدية بالبصرة لا يفارقن خدمة "المشاية" في الاربعينية