- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
منبر أم أعواد ؟ - الجزء الثالث والاخير
بقلم: نجاح بيعي
كان الإمام علي بن الحسين (ع) قد نجح نجاحاً باهراً في تحقيق أهداف عدة من وراء وثبته وارتقائه المنبر وإلقائه خطبته العصماء على مرأى ومسمع الجميع, من على منبر اللعين يزيد في الشام, وبيّنا في ما مر من الكلام (في مقالنا السابق) بعض تلك الأهداف الكامنة وراء ذلك ولعل الهدف الأكبر والأقوى هو بيان وتثبيت (خمسة) أركان مكونة لكل (مجلس عزاء) ينعقد لمواساة لسيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وهي: (الخطيب والخطاب والمنبر وصاحب المنبر والجلساء). بحيث جعلها الإمام (ع) كمدرسة أو قل كخارطة طريق ينطلق بها المجلس الحسيني كأكبر أداة إصلاحية وإعلامية مقدسة عبر الأجيال, فالمجالس الحسينية يرجع اليها الفضل في حفظ الدين والمذهب, والمحافظة على جذوة الولاء الحسيني متقدة في قلوب المؤمنين والموالين عبر أدوار التاريخ العصيبة, ونجح الإمام (ع) بجعل المجلس على سكة النهضة الحسينية الصحيحة كشعلة تنير درب العباد لتنقذهم من (الجهالة) و(حير الضلالة), استثماراً للدماء الزكية التي قدمها الإمام الحسين (ع) وأهل بيته الكرام وصحبه البررة في طف كربلاء قرباناً الى الله عزوجل, من أجل صلاح وإصلاح أمة جده محمد (ص وآله), بعد الإنحراف الشامل الذي أصاب الأمة وابتعادهم عن الدين القويم والصراط المستقيم, وسقوطهم في أشراك العقائد المنحرفة المضطربة نتيجة سياسات بنو أمية الشاذة: (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة)(1).
نعم.. لكل ركن من هذه الأركان دور ومساحة في مجريات العزاء الحسيني. وقد تتداخل تلك الأدوار والمساحات الخاصة لكل ركن مع بعضها البعض, وتذوب وتصبح واحدة يُؤطرها عنوان واحد. فحينما يجري الحديث عن (الخطيب) مثلاً ينصرف الذهن الى الخطاب والمنبر كمتلازمة.
وربما هنا خير ما نستشهد به في بيان دور ومساحة كل ركن من تلك الأركان المكونة لمجلس العزاء الحسيني, هو ما اجادت به المرجعية الدينية العليا في وصاياها العامة للخطباء والمبلغين في هذا المجال.
والأركان (الخمسة) المكونة للمجلس الحسيني هي:
1ـ الخطيب: ويُعد عمود تلك الأركان المكونة للمجلس الحسيني, وتشرأب اليه الأعناق وعليه المعول في نجاح وتحقيق أهداف المجلس المقام من عدمه, فإذا صلُح الخطيب صلح المجلس وأوتي ثماره وكان مجلساً تنويرياً فيه صلاح الأمة في الدنيا والآخرة معاً, ولنا في إمام الخطباء علي بن الحسين (ع) أسوة في ذلك, وإذا فسد فسد المجلس وكان وبالاً على الدين والمذهب والأمة معاً, ولنا في خطيب اللعين يزيد في مجلسه خير مثال. لذا تقع على الخطيب مسؤولية عظمى كونه يمثل و(يجسد الوجه الإعلامي لحركة عاشوراء ولمشروع سيد الشهداء عليه السلام)(*). لذلك فعلى الخطيب أن يتحرى (التقوى والإخلاص لله تعالى في القول والأداء والسلوك، فيجعل الله سبحانه نصب عينيه ويستحضر رقابته عليه ويسعى إلى رضاه وقبوله)(*), وأن يهتم بالمسائل الفقهية الابتلائية, وأن يطرح المشاكل الإجتماعية الشائعة مشفوعة بالحلول الناجعة, وأن يركز على أهمية المرجعية الدينية والحوزة العلمية والقاعدة العلمائية التي هي سر قوة المذهب الإمامي ورمز عظمته وشموخ كيانه وبنيانه, وأن يكون الخطيب مواكباً لثقافة زمانه، وعليه أن يستقرء الشبهات العقائدية المثارة, وأن يستقرء السلوكيات المتغيرة في كل مجتمع وفي كل فترة تمر على المؤمنين. وأن يتحرى الدقة في ذكر الآيات القرآنية أو نقل الروايات الشريفة من الكتب المعتبرة أو حكاية القصص التاريخية الثابتة, وأن يُبدع ويبرز باختيار النصوص والأحاديث التي تشكل جاذبية لجميع الشعوب على اختلاف أديانهم ومشاربهم الفكرية والإجتماعية: "إنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا", وأن ينوع الإطروحات فإن المجتمع يحتاج الى موضوعات روحية وتربوية وتاريخية, عليه أن يحذر في (بيان أهمية العقائد الحقة ومسلمات مذهب أهل البيت (صلوات الله عليهم) في شأن مقاماتهم الشريفة من أن يوهن أهمية الطاعات ويهوّن المعاصي في أعين الناس، فإن أمر المؤمن لن يصلح إلّا بالخوف والرجاء، فلابد من حفظ المؤمن للموازنة بينهما في نفسه وفي شأن الآخرين)(*).
2ـ الخطاب: وهو الرسالة الإسلامية الحسينية العقائدية الإصلاحية, الذي يجب أن يُفرغ له مساحة وافية للقرآن الكريم مع التأكيد عليه: (فإنه رسالة الله سبحانه إلى الخلق كافة وثقله الأكبر في هذه الأمة وميزان الحق والباطل). وتضمين الخطاب (حيث يقتضي المقام بنحوٍ ما ـ ما يثبت أصول العقيدة الحقة ودلائلها المحكمة من أدلة قوية ووجدانية بأساليب ميسرة وقريبة من الفهم العام، كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية وآثار العترة الطاهرة، وذلك لمزيد ترسيخها في نفوس الناس ودفع الشك والشبهة عنها بما يزيح تلك الشبهة عنها ويزيل وهن التقليد والتلقين فيها). وفي خطب (أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة مَثَل أعلى لما ينبغي أن يشتمل عليه الخطاب). كما أن في (أدعية الصحيفة السجادية الشريفة مَثَل أعلى لما يمكن أن يذكره المبلغ في خاتمة خطابه فيقتبس فقرة منها ويدعو بها ليستحضر الناس الأدعية البليغة لأئمة الهدى (صلوات الله تعالى عليهم). وعلى الخطاب أن يهتم (ببيان التعاليم والقيم الفطرية السامية الإلهية والإنسانية المتمثلة في دعوة النبيّ وعترته (صلوات الله عليهم) وفي ممارساتهم وحياتهم، وتوضيح محلّهم في الأسوة والاقتداء). وكذلك (بيان وصاياهم (صلوات الله عليهم) الخاصة إلى أتباعهم ومحبيهم، وذلك أن لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ مضافاً إلى بياناتهم للأحكام وتوصياتهم العامة للمسلمين وتأكيدهم على أهمية الإهتداء إلى محل أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الأمة واصطفائهم منها ـ وصايا خاصة لمحبيهم وأتباعهم، فينبغي الإهتمام بإيصالها إليهم حتّى يتأدبوا بآدابهم وتكون أعرافاً راسخةً في أوساطهم)(*).
3ـ المنبر: لسان حال الإسلام الحق. والمنارة التي حفظت الدين والمذهب عبر التاريخ المرير الطويل. والركن الذي تلجأ اليه الأمة في صلاح دينها ودنياها في مقابل النهج الأموي الظلامي. فالمنبر امتداد لرسالة الإمام الحسين (ع) ونهضته الإصلاحية, كما هو (ع) امتداد لرسالة النبيّ الأكرم (ص وآله). لذا فحفظ (موقعية المنبر الحسيني في أداء رسالته الخطيرة)(*) في الأمة واجب على الجميع, لأن (الهدف الأسمى للحركة الاصلاحية التي قام بها سيد الشهداء (ع) هو حفظ الدين وترسيخه, مقابل المنهج الأموي الذي كان قائماً على هدم ركائز الاسلام وقيمه)(*).
وتتجلى رسالة المنبر في أيام موسم محرم الحرام في نقطتين:
ـ الأولى) :ذكر ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من مظلومية ومصائب وفواجع, ونشر الدين وترسيخه في عقول المسلمين وقلوبهم, من خلال بيان المعارف القرآنية ودفع الشبهات بالأدلة الوافية المقنعة وتربية نفوس المؤمنين على الورع والفضيلة والقيم المثل. وهذا بعينه هو الدور الذي أناطه الله (عزّ وجل) برسوله (ص وآله) الذي هو أول من ارتقى المنبر في الاسلام)(*).
ـ الثانية: إن من (أجلى مصاديق حفظ الدين وترسيخه في العصر الحاضر هو التصدي لدفع الشبهات المطروحة في مقابل الدين ومعارفه الأصيلة وقيمه الأخلاقية)(*). وفيه تفصيل يراجع بها نصوص وصايا السيد المرجع الأعلى دام ظله الوارف للمبلغين.
4ـ صاحب المنبر: ويُقصد به (أصحاب المجالس) والقائمين والقيمين على الحسينيات والمساجد والمواكب الحسينية وغيرها, فهؤلاء أصحاب جهود جبارة ومباركة لا تنكر في أي حال من الأحوال, ولكن تقع عليهم أيضاً المسؤولية التضامنية مع الخطباء والمبلغين, فالصفات والمميزات التي يتصف بها الخطيب تقع أيضاً على صاحب المنبر (المجلس), فنجاح ومقبولية المجلس الحسيني ربما تكون بيده, إن احسن اختيار (الخطيب) ونهج (الخطاب) الذي يحرز للناس فيه صلاح ولله تعالى فيه رضا. ولهذه الوظيفة الحسينية الحساسة (أموراً ملائمة لها من حيث المظاهر والسلوكيات العامة والخاصة.. لتبليغ الدين وأداء العزاء الحسيني.. وما يُراد به من الإرشاد والتذكرة.. وذلك بملاحظة ما يقتضيه الوقار والإبتعاد عن المشاحّة في طلب المال، وتجنب ما يوجب سوء الظنّ ويخدش بنقاء الصورة ويؤشّر على الطمع، ومراعاة العفاف عن أي مأرب دنيوي من وراء أداء هذه الوظيفة.. وليتجنب أصحاب (المنبر) المجالس من (المناقضة والمنافرة والتفرّق والإختلاف.. فإنّ ذلك يخدش بالإخلاص ويحبط الأجر ويوجب سوء الظنّ بين المؤمنين ويؤدي إلى تعطّل المشاريع التي يتوقّف إنجازها على التعاون والتكاتف، ومن استطاع أن يجعل عمله وإعانته أشبه بصدقة السرّ من دون طلب رئاسة أو شهرة أو جاه فليفعل، فإن ذلك خير له وأكثر بركة)(*).
5ـ الجلساء: وهم الحضور من الناس ومن قبلهم (الأمة) المعنيين من وراء إقامة مجالس العزاء الحسيني, وهم الهدف دائماً أو ينبغي أن يكون كذلك عند الخطيب والخطاب والمنبر وصاحب المنبر, لأجل تكاملهم وإصلاحهم و(صلاح دينهم ودنياهم)(*) ولهم في ذلك الأجر والثواب من الله عزوجل, وإلا فهم لقمة سائغة للننهج الأموي وللإنحراف العقائدي والديني والتربوي والأخلاقي والأسري وهلمجرا, إن وقعوا بين يدي براثن مَن باع نفسه واعتلى المنبر وقد اشترى مرضاة المخلوق بسخط الخالق, فأورد نفسه النار يوم القيامة بعد أن أخزاه الله تعالى في الدينا, ومن سار على نهجه وخطه. والجلساء (ومن ورائهم الأمة وباقي عباد الله) عليهم أن يدركوا الغاية العظمى من وراء استشهاد الإمام الحسين (ع) في طف كربلاء, كما أوجزها وأبانها الإمام الصادق (ع) في إحدى عبارات زيارة الأربعين حينما قال: (وَبَذَلَ مُهجَتَهُ فيكَ لِيَستَنقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيرَةِ الضَّلالَةِ). فالجميع أمام مسؤولية حمل هذا الإرث العظيم ومسؤولية رد الجميل لذلك الدم الطاهر الذي بُذل من أجل أن ينتشل الجميع من الجهالة وحيرة الضلالة, الذي أرسى دعائمهما (المنهج الأموي الذي كان قائماً على هدم ركائز الإسلام وقيمه)(*).
وقد أوصى (أئمّة الهدى عليهم السلام بإحياء هذه الذكرى من خلال إقامة مجالس العزاء فيها واستذكار ما جرى عليهم من المصائب والمآسي ليكون عِبرة وعَبرة للمؤمنين، فكان حقّاً على المؤمنين كافّةً الإهتمام بإقامة هذه المجالس والحضور فيها والحزن معهم (صلوات الله عليهم) في أيّام حزنهم امتثالاً لوصيّتهم وعملاً بما أُمروا به من مودّتهم ومواساةً معهم، فإنّ في ذلك صلاح دينهم ودنياهم، ولينزّل كلّ واحد منهم ما وقع على أهل البيت (عليهم السلام) منزلة ما لو وقع شيء من ذلك عليه وعلى أعزّته وأسرته رحمةً ومحبّةً وحزناً وخشوعاً، فإنّ الله تعالى ورسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم) أعزّ على المؤمن من نفسه وأهل)(*).
فالسلام على الإمام علي بن الحسين (ع) الذي حول أعواد النهج الأموي الهادم لإركان الإسلام وقيمه العظيمة, الى منبر حسيني عقائدي إصلاحي ما بقي الليل والنهار.
الهوامش
ـــــــــــــ
ـ(1) زيارة الأربعين المروية عن الإمام الصادق (ع)بحار الأنوار ج 98 ص331
ـ(*) من توصيات المرجعية الدينية العليا لخطباء المنبر والمبلغين للأعوام 1438/1440/ 1441هـ
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟