بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) {فقَد مُلِئَت قُلوبكُم مِن الحرامِ، وطُبِعَ على قلُوبِكُم}.
للتَّنويه؛ فإِنَّ الإِمام (ع) قال {قُلوبكُم} ولم يقُل [بطونكُم] وهذا منَ الأَخطاءِ الشَّائعة، والفرقُ كبيرٌ جدّاً بينَ أَن يمتلئَ القلبُ حراماً أَو أَن تمتلئَ البطنُ من الحرامِ، فليسَ كُلُّ مَن أَكل حراماً يرتكِبُ الجرائمَ البشِعةَ كالَّتي تورَّط بها جيش البَغي في عاشُوراء عام ٦١ للهجرةِ في كَربلاء، كما أَنَّهُ ليسَ كُلَّ مَن ملأَ بطنهُ حراماً يغلِقَ أُذُنيهِ رافضاً الإِصغاءِ إِلى كلمةِ الحقِّ كما فعلَ جيشُ البغي في كربلاء عندما {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}.
هذا أَوَّلاً، وثانياً؛ فإِنَّ امتلاءَ القلبِ بالحرامِ، وهوَ أَعظمُ ما خلقَ اللهُ تعالى من جوارحَ لعبادهِ، فبهِ يُثيبُ وبهِ يُعاقب، أَعم وأَشمل من إِمتلاءِ البطنِ بالحرامِ، فالقلبُ هو الذي يتحكَّم بالقولِ والفعلِ والعقلِ والمشاعرِ وبالنَّوايا وبالصِّحَّةِ النفسيَّة والأَمراضِ الروحيَّةِ وبكُلِّ شيءٍ، ولذلكَ فإِنَّ امتلاءهُ بالحرامِ يعني أَنَّ كُلَّ شيءٍ في شخصيَّةِ الإِنسانِ تلوَّثَ بالحرامِ.
ولذلكَ نُلاحظ في القرآن الكريم أَنَّ الله تعالى يتحدَّث عن القلبِ ما لم يتحدَّث بهِ عن غيرهِ من الجوارحِ، كقولهِ تعالى {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} و {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} و {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} و {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} و {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} و {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ} و {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} و {لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} و {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وغيرِها من الآيات الكريمة التي تشرَح بالتَّفصيل وتُثبِتُ أَنَّ القلبَ هوَ المتحكِّم بكُلِّ حركاتِ وسكناتِ الإِنسان.
حتَّى التَّثبيت الإِلهي لعبدٍ من عبادهِ اصطفاهُ لدَورٍ أَو مُهمَّةٍ رساليَّةٍ خاصَّةٍ، يكونُ بالقلبِ.
فعندما {أَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} تدخَّلَ الغيبُ بقَولهِ {لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
لذلكَ ذكرَ الحُسين السِّبط (ع) القلبَ ولم يقُل البطن، فهو أَرادُ القَولَ بأَنَّ مصدر التحكُّم بشخصيَّة الإِنسان وسلوكهِ ومشاعرهِ ونواياهُ إِذا مُلِئَ بالحرامِ يعني أَنَّ كُلَّ شيءٍ قد فسدَ، عقلهُ وطريقةُ تفكيرهِ ونواياهُ ومشاعرهُ ورُوحهُ، وكذلكَ طُبِعَ على سمعهِ وبصرهِ فيكونُ مصداقُ الآيةِ الكريمةِ {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
فالسُّؤالُ ليسَ ما إِذا كُنتَ تمتلكََ القلبَ والبصرَ والأُذنَ أَم لا؟! إِنَّما السُّؤَالُ في القُدرةِ على التفقُّهِ بالقلبِ والتبصُّر بالعَينِ والإِستماعِ والإِصغاءِ بالأُذُنِ من عدمهِ!.
وتتطابق رُؤيةُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) مع الرُّؤيةِ القرآنيَّة، كما في النُّصوصِ التَّاليةِ {فَيَا عَجَباً عَجَباً واللَّه يُمِيتُ الْقَلْبَ ويَجْلِبُ الْهَمَّ مِنَ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ} و {وآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِه فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ، قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِه وعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِه، يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ ويُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ يَقُولُ؛ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وفِيهَا وَقَعَ ويَقُولُ؛ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وبَيْنَهَا اضْطَجَعَ، فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَه ولَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْه، وذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ} و {فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِه أَنْ يَعْلَمَ؛ أَعَمَلُهُ عَلَيْه أَمْ لَه؟؟ فَإِنْ كَانَ لَه مَضَى فِيه وإِنْ كَانَ عَلَيْه وَقَفَ عَنْه، فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ فَلَا يَزِيدُه بُعْدُه عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِه، والْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ؛ أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ!} و {وإِنَّ اللَّه سُبْحَانَه لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّه (حَبْلُ اللَّه الْمَتِينُ) وسَبَبُهُ الأَمِينُ وفِيه رَبِيعُ الْقَلْبِ ويَنَابِيعُ الْعِلْمِ ومَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَيْرُه مَعَ أَنَّه قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ وبَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْه وإِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْه فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه (ص) كَانَ يَقُولُ (يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَيْرَ ودَعِ الشَّرَّ فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ)} و {فَتَامُّ الرُّوَاءِ نَاقِصُ الْعَقْلِ ومَادُّ الْقَامَةِ قَصِيرُ الْهِمَّةِ وزَاكِي الْعَمَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ وقَرِيبُ الْقَعْرِ بَعِيدُ السَّبْرِ ومَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ وتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ وطَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ} و {فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وأَخِيكَ وخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي} و {ولَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ ولَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ ولَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً ولَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ} و {وعِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُه بِجَدِّكَ وخَالِكَ وأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ، وإِنَّكَ واللَّه مَا عَلِمْتُ الأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِِ}.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول