- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. الخط التصاعدي للإيمان بين شطرين ـ الجزء الحادي عشر
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
كما عرفنا سابقاً أن الايمان يتشكل من أضلاع ثلاث وهما: الإعتقاد القلبي وعمل الجوارح وعمل بالأركان، ويمكن ضم الأول والثاني إلى بعضهما ليصبحا أحادياً الحقيقة لاشتراكهما في حقيقة واحدة، وهو الإعتقاد الراسخ في النفس. وهذا هو الشطر الأول من حقيقة الإيمان، أما الشطر الثاني فهو الممارسة العملية والتي تشكل أعمال الإنسان وسلوكه والتزاماته ومعاملاته. وهذا الشطر الثاني هو الذي أكدت عليه الروايات الشريفة الواردة عن النبي (ص وآله) وأهل بيته المعصومين عليهم السلام، والتي تخرج الإيمان من حيز الإعتقاد إلى ميادين العمل في أنشطة الحياة الأخرى. فكان أهل البيت عليهم السلام يشيرون إلى اختلاف درجات الإيمان عند المؤمنين، حيث أن الإيمان يتأثر صعوداً ونزولاً بالعمل, وهذه المؤثرية لها دور كبير في تقويم الإيمان في نفس الإنسان صعودا أو نزولاً.
فجاء في (الكافي) الشريف عن (جميل بن دراج) قال: سألت (أبا عبد الله) عن الإيمان، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: قلت: أليس هذا عمل قال: بلى قلت: فالعمل من الايمان؟ قال: لا يثبت له الإيمان إلا بالعمل والعمل منه) .
ومن هنا نرى أن أهل البيت عليهم السلام يضعون مقاييس للعمل وضوابط حيث من خلالها تتوسع قاعدة الإيمان كما وباتجاه تصاعدي. ففي رواية عن (عمار بن الأحوص) عن أبي (عبد الله الصادق) (ع) قال: (إن الله عزّوجلّ وضع الإيمان على سبعة أسهم، على البّر، والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والعلم، والحلم، ثم قسّم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل، وقسم لبعض الناس السهم، ولبعض السهمين، ولبعض الثلاثة، حتى انتهوا إلى السبعة. ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم، ثم قال: كذلك حتى تنتهي إلى السبعة).
وفي رواية (سدير) عن الإمام الباقر (ع): (قال لي أبو جعفر الباقر(ع): إن المؤمنين على منازل، منهم على واحدة، ومنهم على إثنين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ستّ، ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقوَ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقوَ، وعلى صاحب الثلاثة أربعاً لم يقوَ، وعلى صاحب الأربعة خمساً لم يقوَ، وعلى صاحب الخمسة ستّاً لم يقوَ، وعلى صاحب الستّة سبعاً لم يقوَ، وعلى هذه الدرجات). أي على منازل الإيمان هذه تكون درجاتهم عند الله يوم القيامة: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
وبهذه الكيفية يتشكل منهج التربية الروحية في الإسلام، حيث كلما ازداد إيمان الإنسان كلما تأهل الإنسان لنيل درجات تحمل التكاليف الشرعية٠ وعليه نرى من خلال هذه الروايات أن خطاً تصاعدياً في الإزدياد الكمي لإيمان الانسان، وهذا الخط التصاعدي لا يحصل جزافاً بل من خلال السلوكيات (سواء أعمال أو أخلاقيات) فإنها تزيد الإتجاه الكمي لهذا الإيمان, وتربيته الروحية من خلال تلك الأعمال التي يأتي بها مقترنة مع الشطر الأول (الجانب الاعتقادي).
ـ تصعيد القيم الايمانية عند الإنسان:
إن تصعيد خط الايمان والسعي لتكثيفه بكل الوسائل هو أمر لابد من العمل عليه بجد. وهذا يكون على الشطر الأول (الجانب الإعتقادي) وعلى الشطر الثاني (الجانب السلوكي). وهذا كما بينا سابقاً يتم من خلال تصعيد خط الإيمان تصاعدياً من خلال ضابطة يتأثر بها الإيمان صعوداً ونزولاً، وهي نوعية عمل الانسان.
إذن.. تنمية البعد الروحي عند الإنسان وقوته وضعفه يعتمد على هذين الشطرين، وهما الركيزتان في التأسيس لذلك، فكيف تتم تقوية هذين الشطرين؟ يتم ذلك كل بحسبه، فالجانب الإعتقادي له مقوم وعامل مؤثر، ويحتاج إليه للمحافظة على هذه الإعتقادات وتحصينها والمحافظة عليها بل تنميته وزيادته ليكون أكثر فاعلية لصاحبه، وذلك من خلال تقويته بما يناسبه وهو تزويده بالعلم والمعرفة اعتقاديا، حيث أن اكتساب العلم والأدلة والمعارف الإلهية في أصول العقيدة (الإيمان بالله تعالى والنبوة والإمامة الإلهية، والدار الآخرة، وبقية الاعتقادات الحقة), تعتبر ضمانة مهمة تحفظ دين الانسان وعقيدته وتحول دون انجرار الإنسان الى الإنحرافات الفكرية والعقائدية، بل تقف حاجزاً صلباً امام اختراق التيارات التخريبية إلى عقيدة الإنسان وسلامتها.
وبهذا التحصين المعرفي يمكن إيجاد الحلول لكل المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته، لذا أشار أمير المؤمنين (ع) إلى هذا المعنى بقوله: (أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْديقُ بِهِ..)، ويكون بهذا أن الامام أمير المؤمنين (ع) قد نبه الى خطورة التفريط بهذا الأمر والى بيان أهمية هذا الأمر وهو معرفة الدين، وأن هناك قاعدة مهمة وأساسية في منظومة العقائد الإلهية ألا وهي المعرفة العقائدية لهذا الدين. حيث أن من بديهيات الحياة العامة نرى فيها أن نجاح الإنسان في حقل معين من الحياة أو في علم من العلوم او فن من فنون الحياة. هذا النجاح يتوقف على معرفة كل علم وفن وحرفة في الحياة ومعارفها الكثيرة، فالزراعة تحتاج الى معرفة في زراعتها لغرض نجاح هذه الزراعة وانها ستثمر بل ستعطي افضل الثمار وأفضل النتائج، وبالتالي تحصل حالة اغتناء للفلاح من زراعته وارضه هذه دون أن يلجأ إلى مصدر آخر، بل يكون هذا مصدره الرئيس لسد حاجاته جميعا، كذلك معرفة الله وبقية العقائد تغني الإنسان عن بقية الاعتقادات الاخرى، وتضع الإنسان (المعرفة) على جادة الحق وتأخذ بيده نحو التكامل والمسار الصحيح، ويواجه بها تحديات الحياة والشبهات والفتن، وبالمعرفة تتشكل حصانة معرفية وفكرية تحفظ دين الإنسان وعقدته من الإنهيار .
ـ المعرفة العقائدية:
القضية العقائدية خطيرة وتترتب عليها آثاراً مهمة في حياة الإنسان، وبالتالي تنعكس على تفاصيل بنائه الروحي والفكري. من هنا نجد أن الإسلام يشدد على مسألة مهمة وهي أنه لابد في الأمور الإعتقادية من قيام الدليل عليها وتحصيل العلم بها، بل يحرم التسرع في الإعتقاد بها بالظن من دون بينة وبصيرة، بل يصبح من أعظم المحرمات بضرورات الدين قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْـمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).
إذن.. لابد من إقامة الدليل والبرهان كي يستند اعتقاده بها الى الجزم واليقين، وهذا هو الغرض المهم هو حصول اليقين في نفس المعتقد واذا حصل ذلك فسيكون صخرة صلدة تتحطم عندها الاهواء والرياح العاتية وامواج الفتن والضلال، ويسلم صاحبها من التزلزل والتيه والانحراف.
وكذلك يحرم الاعتقاد بعدمه دون دليل لانه يصدق عليه (قول بغير علم) وهو محرم أيضا، بل لابد من إقامة الدليل والبرهان وهو معناه تحصيل العلم والمعرفة بها، أو على أقل الإحتمالات التوقف حتى يتضح الحال نفياً أو إثباتاً٠
فالمعرفة بهذا الجانب المهم في عقيدة الإنسان أمراً مهما لأنه به تتشكل حصانة معنوية تضمن وتحافظ على أهم جانب مقدس في حياة الإنسان والذي لا يزاحمه مقدس آخر في حياته، به ترتفع أغشية الضلال ويقضى على الشرور، وتزداد القيم المعنوية كما في نفوس وقلوب المؤمنين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فتلاوة الآيات المباركة أي النظر في المنظومة المعرفية في القران الكريم، والتي من شأنها الحفاظ على الإيمان بل وزيادته.
وهناك حقيقة يسجلها القران الكريم وينبه إليها في آياته الشريفة، وهي أن الإنسان كلما زادت معرفته بالله تعالى وبقية اعتقاداته كلما زادت خشيته من الله وخوفه منه تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، وهنا جاءت (إنما) لتفيد الحصر، اي ان خشية الله لا تحصل إلا بهذا الطريق حصراً وهو طريق العلم والمعرفة.
ومن جهة اخرى ان خشية الله تعالى و الخوف منه تعالى تستبطن الصلاح والإستقامة وإشاعة الفضيلة في المجتمع ودفع الرذيلة فيه: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا). فالمعرفة العقائدية تحمي دين الإنسان وتزيده صعوداً وتجذره في نفسه.
فالمعرفة والعلم تشكل ضمانة قوية للحفاظ على إيمان الإنسان وتدينه بل وزيادته، وعلى خلاف ذلك هو الجهل فإنه يقوم بوظيفة من شأنها أضعاف الجانب الروحي عند الإنسان، لذا نرى أن الأنبياء(عليهم السلام) قد خاطبوا أقوامهم الذين عارضوهم بوصف إنهم قوم يجهلون، أو جاهلون، أو إنهم لايعلمون. وهكذا بقية الصفات التي تكشف تدني مستواهم المعرفي وإنهم قوم لا يفكرون وإنهم قد جانبوا ملكة العقل والتفكير والمعرفة, فكان عامل انعدام المعرفة والعلم سبباً في قلة وعيهم وضحالة تفكيرهم فجعلهم يقفون الموقف المتنكر لحقائق العقل, فالجهل هو كل ما يعصى الله به ويكون طريقاً الى العصيان والكفر، وآثاره هو الأفكار الضالة والأعمال السيئة والآداب المذمومة، والقران يشير الى هذه الحقيقة بقوله تعالى: (ولو اننا انزلنا اليهم الملائكة اكثرهم بجهلون)، وبناءاً على هذه الحقيقة القرآنية نسجل المعادلة التالية: إن كل غير مؤمن بالله تعالى فهو جاهل.
والعكس بالعكس: أن كل من عرف ربه فهو مؤمن ولا يعد من الجاهلين، بحسب المنطق القرآني: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ), وقد وصف امير المؤمنين (ع) الجاهل بأوصاف عدة منها:
1ـ لا عدو أضر من الجهل
2ـ لا فقر كالجهل
3ـ أعظم المصائب الجهل
4ـ أشقى الناس الجاهل
فهذه الصفات وغيرها كثير تكشف عن واقع متدني يعيشه الجاهل وأن هناك آثاراً يتركها الجهل على نفس الإنسان ومن أهم هذه الآثار هو حالة الشقاء التي يعيشها الجاهل وتمرده على القيم الإلهية ويصبح إنساناً يجانب الحق والإيمان، بل أن الجهل قد يحدث حالة الإنقلاب في دين الإنسان وتزلزل عقيدته، وبالتالي يحقق الخسارة الكبيرة في حياته ونكوص في خط علاقته بالله تعالى. لذا نرى أن أتباع الحركات الضالة التي تهدد سلامة الأمن العقائدي في المجتمعات البشرية هم طبقة الجهال منهم ، فهم الذين يتبعون هذه الأفكار ويصدقون بها، وبالتالي يكونوا ضحية لجهلهم هذا بأن تسحقهم هذه الحركات وتدفع بهم إلى نار جهنم.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- مواجهة الخطر قبل وصوله
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول