- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
كيف نفسر أجتماعياً سلوك البصريين؟
منقذ داغر
يروي الأستاذ الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي قصة أولئك القرويين الجوعى الذين يحاولون أظهار عدم جوعهم وعدم رغبتهم في الطعام عندما يدعوهم الشيخ الى مائدته الدسمة التي يسيل لعابهم لها. لذا تراهم يتمنعون عن الطعام لكي يستجيبوا للمعيار الاجتماعي المهم المتمثل بعزة النفس والكرامة ولا يبدأون بالطعام الا بالأصرار عليهم أكثر من مرة أن يأكلوا.
وفي الوقت الذي علل فيه الوردي ذلك السلوك الذي عانيت منه شخصياً في أول احتكاك لي مع الثقافة الغربية، بازدواج الشخصية فأن الدراسة الميدانية التي قمت بها في المجتمع العراقي لثلاث سنوات جعلتني أعلل هذا السلوك بما يسمى بظاهرة الانصياع الثقافي obedience cultural والتي تبرز بوضوح في المجتمعات الجماعية المتصلبة كالمجتمع العراقي. ففي هذه المجتمعات تتجسد بوضوح ثقافة العيب Shame Culture والتي تستمد قوتها من ثقافة الشرف Honor Culture. لقد أوضحت الدراسة التي قمت بها في ثمان دول في منطقتنا من ضمنها العراق أن الشرف لا يمثل قيمة مفضلة في نظر الفرد فقط بل في نظر المجتمع أيضاً.
فالشرف يرتبط بما تقرره الجماعة وليس الفرد لوحده. أن الشرف قيمة يجب أن يدركها ويحس بها ويعترف بها أو يميزها الآخرون وليس الفرد لوحده. ويمكن ترجمة شعور المرء بالشرف من خلال مشاعر إيجابية (مثل، تقدير الذات self esteem،واحترام الذاتself respect ، والفخرpride،والكرامةdignity )وهذا بدوره يولد الشعور بالشرف. من هنا نفهم هذه السلوكيات الأجتماعية المتجسدة بالكرم والضيافة والترحيب بزوار البصرة من كل أقطار الخليج العربي.
لكن هذا التفسير النفس-أجتماعي لا يمكن أن يفهم بمعزل عن الظروف الأجتماعية والسياسية والأقتصادية المحيطة. فمن المعروف لدينا كمختصين أن الثقافة الأجتماعية تتفاعل مع الظروف المجتمعية الآنية فتؤثر وتتأثر بها. لقد عانى العراقيون لعقود من حالة فقدان للهوية العراقية. وعمل الأحتلال الأمريكي ومن جاء معه وترعرع في ظله من قوى سياسية،وبطرق مختلفة لتشويه أو تذويب الهوية العراقية بأتجاه هويات أثنو-طائفية متعددة ممزقين المجتمع الى جماعات متناحرة. لقد أظهرت الدراسات العلمية أن الهوية الوطنية والتي هي بالأساس شعور داخلي ينعكس في صورة سلوكيات محددة،تزداد وتبرز حينما يكون هناك أنجاز ما.
هذا الأنجاز قد يتمثل بتقدم أقتصادي أو ثورة شعبية أوأنجاز رياضي أو علمي أو سواه. من هنا نفهم مثلاً أرتفاع الشعور بالهوية الوطنية لدى العراقيين ،كما أشارت لذلك أستطلاعات الرأي العام العراقي،في محطات زمنية معينة مثل الفوز بكأس آسيا لكرة القدم، الأنتصار على عصابات القاعدة والأرهاب في 2008،تحرير الموصل 2016 وأنتفاضة تشرين 2019 وسواها من المحطات التاريخية.
لقد تم الحديث كثيراً عن بطولة الخليج العربي خلال العقد الماضي، وتم تأجيل تنظيمها في العراق أكثر من مرة . والى اللحظات الأخيرة قبل أنطلاق البطولة كان هناك شك واسع في أنعقادها في البصرة. سبقت ذلك حملات أعلامية لسنوات لسلخ العراق عن محيطه العربي من جهة،فضلاً عن محاولات في كثير من الدول العربية لتصوير العراقيين على أنهم أنسلخوا عن محيطهم وهويتهم التاريخية وأنهم وقعوا تحت سيطرة أجندات أقليمية معينة من جهة أخرى. لذا مثل أنطلاق دورة الخليج العربي أختباراً حقيقياً للعراقيين،والبصريين منهم تحديداً، لأظهار قدرتهم على الأنجاز فضلاً عن أظهار السلوكيات التي تعزز ثقافة الشرف التي نوهنا عنها أعلاه.
أن هذا الأستقبال الحافل للزوار للبصرة،وبهذه الطريقة التي باتت كل وسائل الأعلام العالمية تتحدث عنها، هو توقيع سلوكي شعبي على شهادة القدرة على الأنجاز وأظهار ما يعزز ثقافة الشرف عند العراقيين. أنه أظهار وتوق واضحين للهوية الوطنية العراقية المميزة.
في أكثر من محاضرة ألقيتها في مختلف دول العالم عن الوضع الأجتماعي والسياسي في العراق،كان هناك سؤال مشترك يطرح عليّ في كل تلك المناسبات مفاده،كيف يمكن للشعب العراقي الخروج من حالة اليأس والأحباط التي تصفها؟ كان جوابي بأستمرار،نحتاج الى قصة نجاح تستعيد ثقة الشعب بنفسه.
أن بطولة الخليج العربي هي قصة نجاح واقعية صنعها الشعب أساساً مع عدم أغفال ما قامت به بعض الجهات لتنظيم البطولة بهذا الشكل الناجح. ويمكن البناء على هذه القصة أو على الأقل أتخاذها مثلاً لما يمكن للعراقيين القيام به مقارنةً بالآخرين.نحتاج الى قصص نجاح في مجالات الحياة المختلفة، سواء في مكافحة الفساد أو الأقتصاد أو السياسة أو العلم أو الرياضة وغير ذلك. أن من الواضح أن ثقافة الأنجاز موجودة في العراق مثلها مثل ثقافة جلد الذات والبكاء على اللبن المسكوب. ونحن بأيدينا علينا أن نختار أي الثقافتين نرعى وننمي لدى الشعب وبالذات أجيال المستقبل.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- كيف يمكننا الاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟ (الحلقة 7) التجربة الكوبية
- كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته "البيئية - المناخية" الخانقة ؟