عباس الصباغ
كانت فكرة (صُنع في العراق) واخواتها اي زُرع واسُتثمر في العراق وغيرها مجرد أمانٍ تراود مخيّلة اغلب العراقيين في معرض تذكّرهم لأيام الزمن "الجميل" ، ايام كانت الاسواق العراقية حافلة بالمنتجات العراقية من التي تحمل البصمة العراقية (البلادية) وتحت يافطة (صُنع / زُرع في العراق) وهي ماركة كانت تتحدى المنتجات الاجنبية المستوردة بجدارة وثقة عالية بالنفس، ناهيك عن وصول البلاد الى مرحلة اشبه بالاكتفاء الذاتي وعدم تسرّب العملة الصعبة الى الخارج مع تقبّل اكثر العراقيين نفسيا لمنتجات بلدهم لثقتهم العالية بكفاءتها ورصانتها وجودتها، وايام كانت الشركات الاجنبية العملاقة تتوسط لدى السفارات العراقية الموجودة في بلادها من اجل ايجاد موطئ قدم لها على الخارطة الاستثمارية في العراق، وفي جميع المجالات المتاحة للاستثمار حيث كانت القوانين والجو الملائم لها متوافرين ومطمئنة لهم.
ونتيجة للحراك الاحتجاجي التشريني المطالب بالإصلاح رجعت فكرة (صُنع في العراق) الى الواجهة من جديد وبقوة، وقفزت كمطلب رئيس من مطالب المتظاهرين السلميين المشروعة، ولم تعد مجرد امنية بل اصبحت مطلبا جماهيريا ووطنيا ملحاّ ونابعا من عاطفة وطنية جيّاشة وتوّاقة الى رؤية العراقيين لبلدهم وهو مزدهر اقتصاديا ومكتفٍ صناعيا وزراعيا وقِبلة سياحية واستثمارية بإمكاناته الضخمة ومؤهلاته الواسعة التي تفتقر اليها الكثير من الدول، ومنذ ان احتدم الحراك الاحتجاجي التشريني اكتظت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام بالكثير من الاشارات التي تحثّ الخطى نحو ارجاع المنتوج الوطني الى سابق عصره الزاهر وتدعو جاهدة الى تشجيع ودعم التعاطي مع المنتجات الوطنية حصرا وعدم الاضطرار الى المنتجات الاجنبية، واسباب التشجيع تكمن في: ان المنتوج المحلي هو ذو مواصفات جيدة جدا وله القدرة على منافسة المنتوج الاجنبي ولايقلّ كفاءة وجودة عنه إن لم يكن افضل منه، وثانيا وجوب فتح المصانع التي اُهملت وعددها يربو على الآلاف لتساهم في تمويل الموازنات الاتحادية ولتكسر الاحتكار النفطي لاقتصادنا الريعي، فضلا عن تهيئة المزارع والثروة الحيوانية ـ والتي تاثرت كثيرا بالتجريف البشري او التصحّر البيئي ـ بالبنى التحتية والاموال اللازمة لذلك، وثالثا وهو الاهم اذ يجب امتصاص البطالة المقنّعة للشباب العاطلين عن العمل لاسيما الخريجين منهم ورفع المستوى المعيشي للكثير من المواطنين الذين يعيشون تحت مستوى الفقر.
ان تلك الدعوات تحمل اكثر من اشارة موجّهة الى اصحاب القرار المالي والسياسي ومهندسي الموازنات العامة في النظر بجدية اليها والحدّ من ظاهرة إغراق السوق العراقية بالمنتجات المستوردة من كل حدب وصوب، وعلى حساب المنتوج الوطني المشهود له بالجودة والمقبولية حتى في الاسواق العالمية، ولقد سرّني كثيرا ان تنطلق الكثير من تلك الدعوات المشجعة للمنتوج الوطني من قلب ساحات التظاهر لتكون ضمن قائمة المطالب المشروعة التي رفعها المتظاهرون السلميون والمطالبون بالإصلاح ومقارعة الفساد الذي كان مظهرا من مظاهره فتحُ الباب مشرعا على مصراعيه امام المنتوج الاجنبي وتسهيل عبوره وتنحية المنتوج المحلي واقصاؤه عن السوق لأسباب بعيدة عن المهنية والاخلاص الوظيفي والحس الوطني والخوف على الاموال العامة خاصة العملة الصعبة، والقريب في ذات الوقت من المصالح الشخصية.
ولأجل اعادة رونق شعار (صُنع في العراق) واخواتها الى سابق عهده يجب تهيئة المناخ الوطني لذلك سواء عن طريق البرلمان بتشريع واقرار القوانين التي تساعد على هذا الامر خاصة مايتعلق منها بمفردات الموازنات العامة والتصويت على اية فقرة تدعم المنتوج الوطني، والذي مازالت يحتاج الى الكثير من الاموال والدعم اللوجستي والبنى التحية وتهيئة المناخ الاستثماري الداعم له سواء من داخل او خارج العراق، كون جميع اقتصادات العالم لم تزدهر الا عن طريق الاستثمار ، وتبقى الكرة في ملعب السلطة التنفيذية لترجمة القوانين المشرّعة على ارض الواقع والتي تصبّ في تحويل شعار (صُنع في العراق) الى حقيقة ملموسة، ويبقى الامل معقودا بان تكون ساحات التظاهرات منطلقا لحماية المنتج المحلي الذي يمثل نقطة الانطلاق الحقيقية صوب تنمية اقتصاديَّة مستدامة تبنى وفق استراتيجيات تنظّم الإنتاج الوطني وتوظف مقومات النجاح المتوفرة بالاتجاه الذي ينقل العراق إلى موقعه الصحيح بين الامم.
أقرأ ايضاً
- وقفه على مقال (الاستثمار الأجنبي المباشر يساعد على نهضة العراق)
- عن النزاهة واخواتها !
- بلاد مابين النهرين (العراق)