حجم النص
بقلم:عباس الصباغ
ضمن المساعي الحثيثة لترسيخ وتجذير السلم الاهلي عبر ارساء مبادئ التداول السلمي للسلطة والذي يساهم بالدرجة الاساس في تحقيق السلم الاهلي والمجتمعي معا قام الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) بتولية الصحابي الجليل علي بن ابي طالب خليفة له ليتولى مهام المركز الاول (راس الهرم) في تراتبية مراكز السلطات في الدولة الاسلامية وليمنع حدوث التصدعات المحتملة في نسيج المجتمع السياسي التي ستنسحب تباعا على المجتمع الاهلي (والعكس صحيح) ، وقد اعلن النبي عن سبب هذا الاجراء الاداري كونه قد علم باقتراب رحيله الى الرفيق الاعلى ولابد من وضع النقاط على الحروف ، وتكمن اهمية هذا الاجراء النبوي انه جاء في الوقت والمكان والظرف المناسب فقد كان النبي(عليه الصلاة والسلام) يعلم ان الكثير من التناحرات الدموية ستحصل بعد وفاته وهذا امر طبيعي بين البشر ، ومن جهة اخرى كانت الدولة الاسلامية تعيش في مرحلة النشوء والارتقاء اي كانت دولة فتية وتكتنفها الكثير من المخاطر والتحديات الداخلية والخارجية بدليل حروب الردة التي حدثت بعد وفاة النبي وفي عهد ابي بكر ، اضافة الى التنازع والتغالب على السلطة خاصة على مركزها الاول فاراد النبي (عليه الصلاة والسلام ) ان يقطع دابر الفتنة السياسية والخصومات المزاجية والتي لو حصلت ـ لاسمح الله ـ لاندثرت وضاعت المنجزات والتضحيات التي ارساها النبي(عليه الصلاة والسلام ) ومعه عليّة الصحابة الاجلاء (رضي الله عنهم) ولهذا جمعهم النبي في الثامن عشر من شهر ذي الحجة اي بعد ايام معدودات من انتهاء موسم الحج اذ جمع كل من حضر الموسم بلا استثناء ليوجّه رسالة (اعمام) بالمصطلح الاداري الحديث الى الجميع بمختلف مشاربهم الايديولوجية وانتماءهم العشائري و"امزجتهم" وقناعاتهم واختلاف مناطقهم واثنياتهم من هذا التبليغ النبوي (الامر الاداري الرئاسي) الذي صدر بإمضاء السماء (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا المائدة3 ) ولم يكن تبليغا شخصيا من لدن النبي (عليه الصلاة والسلام ) او محاصصاتيا كما يحصل في زماننا هذا رغم ان الجميع قد اسرع بتنفيذ امر النبي (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ /36) فكان التبليغ لجميع من حضر الموسم تنفيذا لأمر السماء ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَل فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ). أي ان الله يعصمك من الامزجة المتقلبة والنفوس المريضة . تشير السرديات التاريخية الى سبب تسمية ذلك اليوم بالغدير وذلك لاجتماع النبي (عليه الصلاة والسلام ) بأمر من الله عَزَّ و جَلَّ في هذا اليوم مع عشرات الآلاف من صحابته الكرام لدى عودته من حجّة الوداع وهي الاخيرة في موضع بين مكة و المدينة المنورة يُسمى بغدير خم، فسُمي اليوم باسم ذلك الموضع وذلك في السنة العاشرة للهجرة، حين ألقى النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) في الثامن عشر من ذي الحجة من ذلك العام خطبة عامة في جمع كبير من المسلمين بعد عودته من حجه الوحيد (الوداع) وفي يوم صيف قائظ جدا وقبل وفاة النبي بثلاثة أشهر تقريباً. وبرايي ان الغدير ليست مناسبة اسلامية معينة ولطائفة اسلامية معينة تتمحور حول شخصية اسلامية مركزية وهي المعنية بالمناسبة ، بل هو مناسبة انسانية عامة لكل البشرية لأنها تحثّ على التداول السلمي للسلطة وتدفع التناحرات والمناكفات التي ترافق التداول اللاسلمي للسلطة والذي يفضي الى تهديد الامن المجتمعي ويؤدي الى تفكك المجتمع الاهلي وبالتالي تفسّخ المجتمع السياسي وتلاشي القيم الاصيلة التي ضحّى من اجلها الآباء المؤسسون (النبي والصحابة الكرام) فالدرس المستوحى من الغدير رغم أبعاده الدينية والتضحوية الاّ ان بعده السياسي مازال متوارثا بين الاجيال في التعاطي الايجابي مع السلطة كما حددها النبي (عليه الصلاة والسلام) وهو ماتقرّه جميع الاعراف والمواثيق الدولية سواء السماوية منها او الوضعية .