يمثل تنور الطين جزءاً مهماً من ذاكرة العراقيين وتراثهم العريق، فهو ليس مجرد وسيلة لإعداد الخبز، بل رمز للأصالة والتراث والدفء العائلي.
يُصنع تنور الطين عبر خميرة لعدة أيام من الطين الحر الذي يكثر في سهول العراق تحديداً، والتبن (نبات الدريس) والملح، ويُبنى بشكل دائري بطول يراوح بين 70 سنتيمتراً و110 سنتيمترات.
وكانت أهميته كبيرة في حياة الأجيال السابقة، في حين تفتقده منازل العراقيين اليوم جراء التغيّرات التي طرأت على نمط الحياة.
لكن الحنين إلى تنور الطين يبقى حاضراً بقوة في قلوب العراقيين وذاكرتهم، بحسب ما يقول حاتم أبو كريم، وهو سبعيني يعيش في بغداد.
ويضيف: "كان التنور روح البيت. كنا نستيقظ على رائحة الخبز، ويجتمع الأطفال حول أمهاتهم وهن يخبزن. كان الأمر متعباً لكنه مليء بالبركة".
يحاول بعض العراقيين الاحتفاظ بهذا الإرث من خلال تنور صغير في حدائق المنازل، بينما يجد آخرون في زيارة المناطق الريفية وسيلة لإعادة استكشافه. تقول أم فاطمة، وهي ربة منزل من محافظة النجف "أحرص في كل مرة أزور فيها بيت أهلي في الريف على أن أستعيد ذكرياتي الجميلة في إعداد الخبز. أعد العجين بالطريقة التي ورثتها من أمي، وأوقد النار في التنور وأنتظرها حتى تخمد فيصبح جاهزاً، ثم أبدأ بالخبز. شعور إعداد الخبز وإخراجه ساخناً من التنور لا مثيل له. تعيدني رائحة التنور إلى طفولتي، وتذكرني بأمي وجدتي".
ورغم غياب تنور الطين من معظم المنازل، تظل مكانته الرمزية خالدة عند العراقيين، وهو يعكس بساطة الحياة في سنوات مضت، وروح التعاون العائلي التي يفتقدها الكثيرون في ظل تسارع إيقاع الحياة.
ويتحدث معن الفلاحي، الذي يسكن في بيت مساحته 80 متراً، بحنين عميق عن تنور الطين الذي كان جزءاً من طفولته وحياة أسرته، ويقول: "كان بيت أسرتنا واسعاً، واحتل التنور زاوية خاصة في حديقة المنزل. أذكر كيف كانت أمي تبدأ يومها بخبز الأرغفة في التنور، لتملأ رائحة الخبز البيت".
بالنسبة إلى الفلاحي كان التنور يعني أكثر من مجرد خبز. "كانت جدتي وأمي تعدان الخبز، ونساعد نحن الأطفال في ترتيب الأرغفة، ونحملها ساخنة إلى المائدة. كانت لحظات مليئة بالسعادة والبساطة، لكن مع تغيّر الزمن، أصبحت منازل العراقيين أصغر حجماً، مثل بيتي الذي لا يتسع لوضع تنور، لذا أصبحنا نشتري الخبز من المخابز".
وليست أهمية تنور الطين في حياة العراقيين وليدة أزمنة قريبة، بل تعود إلى حضارات قديمة، ما جعله جزءاً من الهوية الثقافية والموروث الشعبي، وليس مجرد أداة لصناعة الخبز.
يقول الباحث في التراث العراقي، محمد الكاتب، "كان تنور الطين حاضراً في كل بيت عراقي تقريباً، سواء في المدن أو القرى. في المنازل الريفية كان التنور يُوضع في ساحة الدار، أو خارج المنزل بسبب وجود مساحات كبيرة، بينما كان يُخصص له في بيوت المدن موضع في الفناء الخلفي، أو في جانب من الحديقة، كي يكون بعيداً عن الداخل لتجنب الحرارة والدخان".
ويلفت الكاتب إلى أن "التنور كان محور الحياة اليومية في الماضي، حيث كان إعداد الخبز عملية اجتماعية تجمع الأسرة. وأحياناً تساعد الفتيات أمهاتهن في إعداد الخبز، وتجهز الأمهات للصغار أرغفة خبز صغيرة (حنّونه) تشعرهم بالسعادة. إلى جانب الخبز، كان التنور يُستخدم في إعداد أنواع مختلفة من المأكولات، مثل المعجنات، وشي اللحوم والدجاج والسمك، وفي بعض المناطق، كان يُستخدم أيضاً للتدفئة خلال فصل الشتاء".
ويصف تنور الطين بأنه "رمز للبساطة والاكتفاء الذاتي، ويعكس ارتباط العراقيين بالأرض والطبيعة. كان بمثابة عمود أساسي في حياة الأسر العراقية، وكان وجوده في المنزل يعني وجود حياة مستقرة ومكتفية. ورغم تراجع استخدامه لا يزال وجوده يمثل ضرورة لا غنى عنها في منازل كثيرين".
ويتحدث الكاتب عن أن "تغيّر الظروف قلل وجود التنور في البيوت العراقية، والسبب هو صغر أحجام المنازل في المدن وظهور المخابز وانتشار الخبز الجاهز. ويضاف إلى ذلك اهتمام النساء بالالتحاق بسوق العمل والحصول على وظيفة بخلاف الحال في السابق حين كانت النساء يفضلن إدارة شؤون المنزل والعائلة. كل ذلك قلّل أهمية وجود مكان لتنور الطين في الحياة اليومية داخل المدن. سيبقى تنور الطين شاهداً على حقبة من التاريخ العراقي، ولا أعتقد أنه سيزول فوجوده سيبقى حتمياً في القرى والكثير من منازل المدن بسبب حب العراقيين للأرغفة المعدّة باستخدام تنور الطين".
المصدر: العربي الجديد + وكالة نون الخبرية
أقرأ ايضاً
- امين عام العتبة الحسينية لسفير الاتحاد الاوربي: عملنا انساني ونسير وفق توجيهات المرجعية الدينية العليا في العراق(فيديو)
- هل تدفع "القوانين الجدلية" إلى "انتخابات مبكرة" في العراق؟
- ترعاه العتبة الحسينية المقدسة.. لاول مرة في العراق اجراء (130) عملية زراعة نخاع عظم في مركز المجتبى