حجم النص
بقلم:عباس الصباغ في الأزمات السياسية الشائكة تبرز عدة اتجاهات كرد فعل تجاهها وطريقة التعاطي معها تتراوح مابين التعاطي المنفعل غير المنضبط الذي يدل على الارتجال والتخبط وصولا الى الانزلاق في مهاوي سحيقة من الحروب والدمار والتوحش وانتهاك حقوق الإنسان، ومابين الاعتدال والانضباط ومراعاة التعقل وضبط النفس وعدم الارتكاس في مرديات الهوى او الارتجال المفضي الى مالايحمد عقباه، وهنالك اتجاه سياسي مكيافيللي مناور ومخاتل يتخذ من المراوغة البراغماتية طريقا وسطا مابين التسرع وبين الانضباط اي مابين العقلانية وعدم العقلانية في التعاطي مع الملفات السياسية الشائكة والوعرة وخاصة الساخنة منها او التي تحمل بوادر أزمات تفضي الى توتر قد يقود الى قطيعة وتأزم إن لم تفض الى حروب واشتباكات دموية. ولعقود طوال من عمر دولة العراق المعاصرة بعصريها الملكي والجمهوري كانت سياسة العراق تتسم بالارتجال والانفعال وعدم التوازن فيما بين العراق ومحيطه العربي والإقليمي فضلا عن الدولي، والتخبط في العلاقات الدبلوماسية مع دول الجوار الست التي تحيط العراق، والتأرجح مابين المحاور والتكتلات الإقليمية والدولية ولأسباب سيا / اديلوجية / طائفية غابت عنها العقلانية السياسية والالتزام بالمصالح الوطنية العليا والأمن القومي للعراق وتلك السياسة غير المنضبطة دفع ثمنها الشعب العراقي باهظا أثرت على فرص تقدمه التي سنحت له ولم يستغلها سياسيوه وحكامه طوال تلك العهود ناهيك عن أجواء التوتر والتأزم جراء عدم إقامة علاقات متوازنة مبنية على عدم الانجراف في سياسية المحاور والاستقطابات الدولية التي تسيء للأمن والسيادة الوطنيين. واليوم يروم العراق الاستفادة من دروس الماضي وذلك بانتهاج نهج مغاير تماما يليق بالعراق الجديد وتجربته الديمقراطية التي وضعته على السكة الصحيحة فكل السياسيات التي اتبعتها الحكومات السابقة كانت خاطئة لأنها لم تراعِ المصلحة العليا للشعب العراقي قدر مراعاتها مصالحها السلطوية من جهة ومصالح الولاءات الخارجية التي تمرر اهدافها على حساب مصالح الدول التي تنضوي في محاورها وتنفذ أجندتها المرسومة لها سياسيا واقتصاديا وحتى امنيا وعسكريا، لكن العراق أعلنها صراحة وعلى لسان رئيس حكومته د.العبادي بان العراق بدأ يسير بالاتجاه الصحيح وهو الاتجاه العقلاني المنضبط والمتوازن ربما لأول مرة في تاريخه المعاصر والحديث وذلك عبر مسارات عدة أهمها عدم الانحياز الى جهة إقليمية على حساب جهة اخرى وهو ما كان يضعه في مهب ريح النزاعات التي لاناقة له فيها ولاجمل مهما كانت دواعي هذا الانحياز وأسبابه سواء السياسية منها او الاقتصادية او الامنية يضاف اليها الطائفية، وينسحب ايضا على المستوى الدولي بالابتعاد عن سياسة المحاور وعدم التكتل او الانجذاب لأي محور مهما كانت الأسباب الموجبة لذلك، يضاف اليها سياسة عدم التدخل بالشؤون الداخلية للآخرين او عدم السماح لهم بالمقابل بالتدخل في شؤون العراق الداخلية. فان هذه المسارات التي أعلن العراق عن انتهاجها هي تمثل "عين" العقل كما يقول المثل السائر إن كانت العقلانية تعرَّف بأنها هي القدرة أو الحالة التي تعبر عن اتخاذ القرارات على أساس عقلاني. ومن أجلى مصاديق السياسة العقلانية للعراق انه رفض ومازال يرفض وجود قوات عسكرية برية على أراضيه رغم الحاجة الماسة اليها في ظل الحرب الضروس التي يشنها ضد عصابات داعش إضافة الى عدم سماحه لأي تحالف دولي يقوم بمكافحة داعش بالتواجد على اراضيه الا باستحصال موافقة الحكومة العراقية مع رفضه القاطع لاستقدام قوات برية لهذا الغرض كي لاتُفسر تلك الجهود على انها موافقة ضمنية من العراق واستسهال لها بالتواجد على حساب السيادة الوطنية وهذا ماحصل بالنسبة للتحالف الستيني الذي تقوده الولايات المتحدة وغرفة العمليات الاستخبارية الرباعية التي تقودها روسيا إضافة الى بقية الجهود الدولية والأممية وحتى الإقليمية المنضوية في هذا المجال، وبدلا من ان يتحول العراق الى بؤرة استقطاب للمحاور القائمة على مرتكزات سيا/ طائفية انعكس الامر تماما اذ استحال العراق الى مرتكز للتهدئة (وليس للتصعيد) وترطيب الأجواء المحتقنة ونزع فتيل الأزمات ولو لم يكن العراق منتهجا سياسة عقلانية ومنضبطة ومتوازنة لما كان يحظى بقبول وارتياح إقليمي خاصة من بعض الأطراف التي تشهد علاقات متوترة مزمنة كالتي شهدتها كل من إيران ومحورها والسعودية العربية ومحورها ايضا على خلفية إعدام الشيخ النمر اذ كل محور يفسر ذلك من وجهة نظره السيا / طائفية الخاصة به فكلا المحورين تستقطبهما طهران والرياض ويشكلان مراكز نفوذ تابعة لكليهما وفي لعبة سياسية مريرة تدخل الطائفية المقيتة فيها لتؤجج العداوات الكامنة لتجعل المنطقة برمتها على صفيح ساخن، وكنتيجة للسياسة العقلانية للعراق أصبح العراق سويسرا الشرق الأوسط بحياديته وصار يحظى بقبول دولي واسع وكمثال على ذلك الوساطة المرحب بها إقليميا لترطيب "الأجواء" مابين طهران والرياض والتي شهدت تصعيدا في التوتر رافقه حرب إعلامية ساخنة ومبادرات تصعيدية اخرى كقطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والتراشق بالتهديدات المتبادلة بين الطرفين ستؤدي بالنهاية الى عودة سيناريوهات الحروب التي عاشتها منطقة الخليج في العقدين السابقين الا ان تحرك العراق المرحب به افضى الى نزع فتيل التوتر الى حدوده الدنيا المقبولة . كاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- ثورة الحسين (ع) في كربلاء.. ابعادها الدينية والسياسية والانسانية والاعلامية والقيادة والتضحية والفداء والخلود
- التداعيات السياسية بعد قرار المحكمة الاتحادية
- إقالة الحلبوسي... نهاية زعامة سياسية وبداية أزمة