قد يكون الحديث مبكرا نوعا ما ،زمنيا على الاقل، في الحديث حول انعقاد مؤتمر القمة العربي في بغداد في اذار المقبل لكن المعطيات على ارض الواقع لاتشير الى امكانية انعقادها فحسب بل والى ضرورة حتمية انعقادها كاستحقاق عراقي وطني واستحقاق تاريخي اقليمي ولكسر الحاجز النفسي والتخندق السياسي ضد العراق بعد التغيير النيساني ولتصحيح اتجاه البوصلة العربية نحو بغداد ولرد الاعتبار للعراق شعبا وحكومة ولتشكيل خطوة أساسية في عودة البلاد إلى المجتمع العربي والدولي وكانت الخطوة المسبقة او المرادفة لذلك هي تصويت مجلس الامن الدولي منتصف شهر كانون الاول على خروج العراق من البند السابع بعد ان اعتمد المجلس ثلاثة مشاريع قرار تضمنت تمديد عمل الحصانة الدولية على الاموال العراقية وانهاء القيود المتعلقة بانتاج الطاقة النووية واسلحة الدمار الشامل والغاء كل متعلقات البند السابع بضمنها برنامج النفط مقابل الغذاء.
لقد كان الدور العربي غائبا او مغيبا (ومؤدلجا او سلبيا وضديا نوعيا) عن ـ ومع ـ الشارع العراقي بعد ذلك التغيير في حين كان له حضور \"فاعل\" مع السلطات العراقية سيما سلطة البعث (ذات التوجهات القومية) التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود وقد كان الدور العربي مع هذه السلطات فاعلا ومتفاعلا وايجابيا بحكم تراتب المصالح وتشابك الايديولوجيات وحتى مع تلك التي تحمل تناقضا ايديولوجيا مع فكر البعث وتوجه السلطة فان التفاعل كان ايجابيا مقابل السلبية المفرطة تجاه العراق وتجربته الديمقراطية بعد الاطاحة بتلك السلطة بل كان الحضور العربي(الجامعة العربية والدول التي تنتمي الى منظومتها) ساكتة عن الخروقات وانتهاكات حقوق الانسان التي كان يرتكبها النظام السابق ضد شعبه \"العربي\" بل كانت بعض الانظمة العربية متواطئة معه في الكثير من سلوكياته وتصرفاته اللاانسانية اضافة الى تعاطف ما لايحصى من التوجهات الحزبوية والشوارعية وميادين الرأي العام ووسائل الاعلام بكافة انواعها وشرائح كثيرة من النخب المثقفة ووعاظ السلاطين ومن معظم الدول العربية وكمثال على ذلك كوبونات النفط سيئة الصيت التي تمتع به الكثير من \"الاشقاء\" العرب .
العراق شعبا ودولة وكينونة وحضارة كقيمة ثابتة (وليس حكومة او سلطة كقيمة متغيرة) عاش انقطاعا مقصودا اقليميا وعربيا لعقود طويلة من التهميش الداخلي والصدود الخارجي وعاش انقطاعا اكثر حدة وصدودا اكثر قسوة ونكرانا للجميل بعد التغيير لاسباب منها : السقوط المدوي لاحد الانظمة العربية التوتاليتارية الكلاسيكية واكثرها وحشية وهمجية ماشكل سابق إنذار لبقية الانظمة على اختلاف انواعها وادلجتها، اضافة الى توجه مسار العملية السياسية عبر مساراتها الديمقراطية الشفافة ما يؤسس اول قاعدة للاختيار الحر في دول المنطقة واول توجه حقيقي للتداول السلمي للسلطة بعد عقود من التداول الدموي والاستحواذ غير الشرعي على مقاليد الحكم الطوائفي الشوفيني الشمولي.
يطيب للبعض من ذوي النوايا الحسنة ان يتكلم بتفاؤل حذر عن عودة العراق الى الصف العربي (ومنه الى الصف الدولي) والى فاعلية دوره في هذين المستويين وقد يخلو هذا التوصيف من بعض الدقة فالصحيح إن العراق ظلم مرات عديدة؛ مرة من قبل ديكتاتورياته الحاكمة ومرة من قبل محيطه الاقليمي والعربي ومن ثم ظلم من ذات المحيط بعد ان سقطت معاقل الديكتاتورية وانتهج الشعب العراقي طريق الديمقراطية الحقيقية والتوجه الحر وصار في وضع \"نشاز\" قياسا الى المجموعة التي ينتظم معها في جامعة الدول العربية وقد حانت الفرصة التاريخية التي جاءت متاخرة نوعا ما ليس على مستوى عقد القمة العادية الثالثة والعشرين في شهر اذار المقبل ، بل على جميع المستويات لتصحيح اتجاه البوصلة العربية تجاه العراق وهو مركز الثقل العربي الستراتيجي وقد لمح الى ذلك الشعار الذي سينطلق للمؤتمر (التضامن مع العراق الشقيق) . وهذه \" الفرصة\" ان تحققت بالحضور العربي المؤمل (بعض الدول العربية كانت قد قررت مقاطعة القمة لاسباب سياسية وبعضها لايزال يراهن على فشل أية حكومة عراقية منتخبة جاءت بعد التغيير والبعض الاخر مايزال يرفض مجرد الاتصال بالمستويات السياسية العليا) فانها تحمل معطيات سياسية ومعنوية واعتبارية واعترافا صريحا بالتحول الديمقراطي العراقي بعد ممانعة ورفض كيدي غير مبرر وقد تحمل هذه \"الفرصة\" مبادرات وبرامج عملية تصب في صالح العراق لتصب هي الاخرى في صالح المنظومة العربية ولخدمة المنطقة عموما وان كانت مجمل قرارات مؤتمرات القمم العربية غير مفعلة بشكل كامل او صحيح والكثير منها مازال حبرا على ورق واكثرها كانت قرارات تعبوية ومؤدجلة منذ ان تأسست جامعة الدول العربية سنة 1945ومنذ أن عقدت أول قمة عربية طارئة في أنشاص عام 46 لمناصرة القضية الفلسطينية التي اصبحت المحرك الاساس لعقد مؤتمرات القمة العربية إلى الآن, ما عدا استثناءات قليلة جدا.
لقد حسم الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى الجدل بشأن انعقاد هذه القمة وذلك بتأكيده على انعقادها في بغداد حصريا وليس في مكان آخر في العراق أكثر \"امانا\" من بغداد او في اي مكان آخر لدولة عربية اخرى كما نقلت قمة بغداد الى سرت الليبية في نهاية آذار الماضي بسبب مخاوف أمنية في العراق فجعل موسى الكرة في ملعب السلطات العراقية حول الاستعدادات والترتيبات اللوجوجستية وقد باشرت السلطات العراقية المعنية بالإعداد المبكر لاستضافة المؤتمر من قاعات وفنادق ومرافق حيوية ...
ان من اهم النتائج المتوخاة من نجاح مؤتمر القمة المرتقب ان يترسخ الدليل الدامغ على استعادة العراق وحكومته واجهزته الامنية للسيطرة على الوضع الامني في العراق بعد ان كان موضوع الامن يسبب عائقاً رئيسيا امام زيارة اي مسؤول عربي او دولي للعراق ومن شأن هذا المؤتمر أن يدعم العلاقات العراقية العربية وأن يعيد للبلاد مكانتها السابقة كدولة رائدة وسبّاقة في مجال استضافة المؤتمرات والمهرجانات والملتقيات الدولية على أرفع المستويات\" وإعادة ثقة المجتمع الدولي والمحيط الاقليمي بالعراق.
كما وضع عمرو موسى الكرة في ملعب البعض ممن \"يتوجس\" خيفة او شكا مفتعلا من عقد هذه القمة بحجج سياسية وغير سياسية ايضا لم تعد مخفية عن الشارع العربي فضلا عن العراقي وباتت قضية الاحتلال الامريكي ووجود عاصمة عربية مثل بغداد تحت هذا الاحتلال حجة للاستهلاك الاعلامي وفنطازيا سياسية وتجارة بائرة لشعارات راديكالية لم تعد مقبولة او مستساغة منها بعض الراديكاليات الموميائية في بعض دول العالم الثالث والانظمة الديكتاتورية المتحجرة سواء تلك التي تتلفع بعباءة اليسارية منها او التي تنتهج طريقا خاصا بها ليس له شبيه او نظير في النظم الراسمالية او الاشتراكية وما كان نظام صدام حسين عنها ببعيد.
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]