لم تشهد الفترة بعد التغيير النيساني أية بوادر واضحة على نشوء وارتقاء طبقة وسطى (The middle east) عراقية ناهضة وفاعلة تأخذ على عاتقها زمام المبادرة نحو تفعيل اسس التطور السياسي والاقتصادي والتنموي والمعرفي في البلاد لاسباب عديدة منها تاريخية ومنها ما استجد في المشهد العراقي من منعطفات ومتغيرات بعد ذلك التغيير اذا ما تم تبويب التاريخ العراقي الحديث الى مرحلتين مصيريتين تأسيسيتين اساسيتين ؛ الاولى منذ التأسيس الاول للدولة العراقية (1921 ) والثانية تبدأ من عشية سقوط الديكتاتورية وآخر حلقة من حلقات التأسيس الاول في نيسان 2003 ، فالملاحظة الاولى نجد ان الطبقة الوسطى العراقية كانت ذات ملامح شبه واضحة في العهد الملكي (1921 /1958) من خلال صعود البرجوازيات المحلية وفي المستويات كافة وبداية تشكل انتلجنسيا عراقية مبكرة لكنها بدأت تضمحل شيئا فشيئا في العهد الجمهوري (1958 / 2003) بصعود الطبقة العسكريتارية وبروز ظاهرة التريف في المدن ودخول العسكريين والمتريفين الى هياكل ومفاصل الدولة العراقية واستحواذ \"الدولة\" التدريجي على مناحي الاقتصاد والاستثمار والتنمية وبداية ضمور الطبقة الوسطى واضمحلال الانتلجنسيا الفاعلة والمتشاركة ضمن الطبقة الوسطى في البناء والإعمار والتثقيف والتعليم والتحديث وارساء دعائم التطور والتقدم من خلال الكفاءات والتكنوقراط وحين دخل العراق الحقبة المظلمة بانقلاب تموز 1968 وصعود الحكم الفردي والتسلطي الشمولي البعثي من خلال السلطة القبلية والاسرية المتريفة التي حكمت العراق لأكثر من ثلاثة عقود عجاف فقد هشمت وهمشت الطبقة الوسطى تماما باستحواذ \"الدولة\" على كل مرافق الاقتصاد الريعي وفتتت الانتلجنسيا وجعلتها تابعة لاجنداتها الخاصة .
ومن ضمن الاسباب التي ادت الى اقصاء وتفتيت الطبقة الوسطى في العراق ومنذ منتصف سبعينيات القرن المنصرم وخصوصا بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية (1980 ـ 1988 ) هو نشوء هوّة طبقية عميقة بين فئتين تمثل احداهما الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكافة اطيافه وبين الطبقة الحاكمة والمتسلطة والمنتفعين منها والدائرين في فلكها وإن كانت تتمتع ببعض المواصفات الظاهرية للطبقة الوسطى الا انها لم تكن تتمتع بالمؤهلات الحقيقية لهذه الطبقة وحين رزح العراق تحت العقوبات الاممية في فترة الحصار الذي فرض على العراق بعد غزو النظام السابق للكويت(1990) كانت الطبقة الوسطى العراقية قد انهارت تماما ولم يبق منها سوى اطلال دارسة تدل على منظومة الفشل البنيوي الذي رافق تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضى وهذا الفشل اسس مجموعة من الاخطاء السياسية والاقتصادية التي القت ظلالها على مجمل المشهد العراقي ومنه مايخص الطبقة الوسطى العراقية التي لم تزل بعيدة التصور والتحقيق .
ومن الاسباب الاخرى لاستمرارية ضمور الطبقة الوسطى في العراق ان الاقتصاد العراقي مازال اقتصادا ريعيا احادي الجانب لم ينفك لحد الان عن حاضنة الدولة التي مازالت هي الاخرى محتكرة بشكل او بآخر لمجمل الفعاليات الاقتصادية ، وديمومة غموض النشاطات المرتبطة بالاقتصاد مثل الاستيراد العشوائي لعموم السلع الواردة للعراق مع ضعف الرقابة والسيطرة النوعية ما فتح المجال واسعا امام نشاط عشوائي وغير مدروس لكل من يمتلك رأس المال ومن اي \"طبقة\" كان فضلا عن تدهور الصناعات المحلية (القطاع العام والمختلط والخاص) وتعثر القطاع الزراعي في ظل ظروف أمنية قاهرة يرادف ذلك استمرار وتائر الفقر تحت الهامش المتعارف عليه عالميا لشرائح واسعة من الشعب وهو ماخلق فجوة كبيرة لم تستطع اية كتلة من الممكن ان نطلق عليها بالطبقة الوسطى او غيرها من ان تملأها او تسد ثغراتها وقد تكون فترة المخاضات العسيرة التي يمر بها العراق (ومازال يمر بها) وعدم وضوح الرؤية الستراتيجية لمجمل الاوضاع (ومنها قطاع الاقتصاد) احد الاسباب التي ساهمت وما تزال تساهم في عدم تبلور الركائز والبنى التحتية والفوقية فضلا عن الفضاء السياسي الملائم والركيزة الاقتصادية والتنموية المطلوبة للشروع في بناء هذه الطبقة التي كلما نشأت وترسخت على قواعد ومرتكزات قوية واستراتيجيات واضحة كلما ساهمت في ترسيخ دعائم الدولة المدنية والمجتمع المتماسك المرفـَّه ، وعملت ايضا على استقرار الدولة ومنعها من الانهيار المفاجئ ومنعت النسيج المجتمعي من التشتت والتلاشي وشاركت ايضا في إدامة السلم الاهلي من خلال تضييق الفوارق بين الطبقات وقيادة عمليات التغيير السياسي والاقتصادي والثقافي والمعرفي والتنموي الى أمام وكذلك ترسيخ البناء الديمقراطي بالسياقات الليبرالية الحرة والشفافة والنزيهة، لأن من المؤكد بحسب مختلف نظريات الفكر السياسي إن من المستحيل بناء الديمقراطية في بلد مثل العراق وظروفه المعقدة والمتشابكة من غير وجود طبقة وسطى واعية ومستقلة ترعى مصالحها بمعزل عن تأثيرات الدولة.
فلكي تتبلور طبقة وسطى عراقية ناهضة وفاعلة ومتشاركة في البناء الدولتي والمجتمعي يجب اولا ان تتحدد ماهية الدولة القانونية والدستورية وتتوضح آلياتها المؤسساتية وتتفعل السلطات الحكومية بعيدا عن السياقات الحزبوية والانساق التحاصصية وتتجه الدولة نحو تنشيط السبل التي تحدُّ من البطالة وترفع من المستوى المعيشي للمواطن مع رفع مناسيب التعليم والتربية والتثقيف لجميع الشرائح وتشريع القوانين التي تشجع على الاستثمار الذي يحتاج الى قوانين نافذة واجواء امنية مشجعة وتنويع مصادر الدخل القومي بالابتعاد عن الاقتصاد الريعي الذي مازال يكبل ارادة الدولة السياسية والاقتصادية والتوزيع الموضوعي والعادل للثروات الوطنية ودعم الكفاءات الطموحة ورفد المشاريع ذات الجدوى التي تخدم الوطن والمواطن على حد سواء .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- فزعة عراقية مشرّفة
- اهمية ربط خطوط سكك الحديد العراقية مع دول المنطقة
- حماية الاموال العراقية قبل الانهيار