كان احد الاعلاميين العراقيين يعد تقريرا امس، عن \"الوجه الآخر\" للاجتياح الاميركي الذي يقوم بخفض عديد قواته، لا سحبها كما يشاع. كان يذكر مثالا على ذلك حرية التعبير التي دخلت الى العراق عام 2003، الى جانب صناديق الاقتراع التي فرضت التعددية السياسية، وممكنات الحراك المدني والتمثيل السياسي للمرأة.
حرية التعبير كما احسب هي اكثر المكتسبات متانة طالما بقيت التعددية السياسية ولم يفاجئنا انقلاب عسكري لا سمح الله. نحن في وسائل الاعلام نشعر بأننا اقوياء لأننا لا نواجه حاكما واحد بل حكاما عديدين، من مصلحتهم وجود حرية تعبير مقبولة كي يتاح لكل منهم الدفاع عن وجهة نظره او التبشير بها.
لكن ما يحبطني هو تكاسل ليس بالخفي في صفوفنا، نحن العاملون في الصحافة، وأنا على رأسهم في احيان كثيرة، حتى لا يقال ان فلانا يبرئ نفسه. انا كسول في احيان كثيرة، وأشبه الجميع. لكنني اتساءل عن مآلات تقاعسنا وحسب.
التكاسل هو الذي يضيع فرصا عديدة للحرية في كشف ملفات تهم الناس وتلعب دورا حاسما في تعزيز الحياة السياسية. الكسل هذا هو الذي اضعف وسائل اعلامنا، لا مجرد الخوف او تواضع الامكانيات او القول بأن صحافتنا وليدة.
الاخبار والتقارير التي تنتشر بسرعة لدينا هي ذلك النوع السهل. شتيمة يطلقها سياسي ضد آخر علنا، او تهمة كبيرة يقذفها حزب على آخر، او اشياء من هذا القبيل لا تتطلب جهدا صحفيا حقيقيا يقوم على التحري والتنقيب وبذل الجهد.
هناك من يفهم الصحافة بأنها عمل سهل يقتصر على نقل التصريحات للحكومة او المعارضة. بينما الجهد الصحفي الحقيقي هو \"الجورناليزم\" اي العمل المؤلم الذي يتطلب تواصلا على مدار الساعة في محاولة للامساك بنتفة صغيرة من الحقيقة، وحين تنتهي من تجميع النتف للحصول على صورة، عليك ان تتألم ايضا في طريقة عرضها بأسلوب رشيق يكون وافيا وجزلا. ونحن في الاعم الاغلب، كسالى على كل المستويات.
الإتقان يتطلب التعب وساعات العمل الطويلة. ونحن كما يبدو \"مللنا التعب\" وساعدنا حظر التجوال الليلي في الخروج مبكرا من مؤسساتنا، والاعتذار بأننا فعلنا ما يمكن ولا داعي للتأسف على غيره. الاعذار جاهزة دائمة في تبرير التراجع في مستوانا الإعلامي، مقارنة بدول جارة لديها حرية اقل منا، وموضوعات محلية اقل اثارة بكثير.
الخوف من الحكومة والمسلحين، اصبح يتعرض للتضخيم كثيرا، وصار يبرر كسلنا في الاكتشاف وتقديم خدمة المعلومة للجمهور والنخبة.
تأتي لنا صحف الغرب وأحيانا بعض وسائل اعلامنا المحلية، بملفات مهمة. لكننا نتكاسل ولا نتابعها. هناك كل شهر عشرات الملفات الحساسة التي تفتح، دون ان يتجشم الاعلام عناء متابعتها. تراه ينقل خبرا صغيرا ثم يصمت. الاطراف الحكومية او السياسية المعنية، تفرح بهذا الصمت. كسلنا يفرحهم. حرية التعبير وهي المنجز الوحيد، تظل مكسبا لم نحسن استغلاله. والمخيف ان الآلة التي لا تستخدمها تتعرض للصدأ والموت.
لا جدوى ايضا ان يكون عدد المثابرين من الصحفيين، بأصابع اليد. ذلك ان وسيلة اعلامية واحدة او اثنتين، لا تكفي لنشر الحقيقة او اثارة الرأي العام وتحويله الى اداة ضغط. حرية تعبير كالتي تتاح في العراق بحاجة الى جماعة ضغط قوية ينضم إليها عشرات العاملين في وسائل الاعلام المحلية، كي يكون عملها مؤثرا.
الصحفي المثابر وما اندره، سيجد نفسه في نهاية المطاف وحيدا ويشعر باللاجدوى العميقة، ويمكن ان يتوقف ويتحول مثل الآخرين، ناقل أخبار قصيرة مبتورة بلا متابعة ولا تغطية كافية.
الحكاية لا تتعلق بصحفي كسول فقط. الكسل في العراق ناتج عن يأس عميق يخامر معظم الناس. كان احد الاصدقاء يقول انه يفرح كثيرا ويستغرب حين يعثر على \"مصلح سيارات\"، او طبيب او مدرس، يحب اتقان عمله. الجميع يائسون ويحاولون تمشية الامور. والنتيجة ان الاعمال متوقفة من أعلى رأس السلطة، الى أدنى عامل في القطاع الخاص او العام، الا من استثني بالدليل القطعي.
الكسل آفة ستدمر ما تبقى من فرص قليلة. نحن الصحفيون الكسالى سنخسر يوما ما حرية التعبير وسنكتشف اننا لم نحسن استغلالها على نحو يكرسها ويحولها الى تقليد. كل مواطن يتكاسل عن ممارسة حريته، سيفقدها يوما ما، رغم ان البعض كسالى الى درجة تجعلهم عاجزين حتى عن الشعور بالندم.
نحن اذن في الاعم الاغلب، احرار لكننا كسالى في الوقت نفسه.
من لا يجد الهمة، سينتظر حلا سحريا. مرت اعوام طويلة ولم يأت الحل، ونحن ننتظر. المكاسب في بلادنا تظهر بسرعة وتختفي بسرعة، على الدوام. مثل النبات الجميل الذي لا نعتني به فيموت.
لا أخاف امرا في العراق، قدر خوفي من الكسل ايها الناس.