ثورة العشرين المعروفة بالثورة العراقية الكبرى كانت وستبقى علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث وكانت إرهاصاً للثورات المتتالية على مر العقود التي تلتها.. وخلقت حالة من المشاعر الدينية الوطنية الواعية والمتقدمة في رؤيتها للأمور ولسياسة المستعمر الذي يهدف إلى تكبيل العراق بمعاهدات تجعله تابعاً ذليلاً للتاج البريطاني وتقتل فيه كل روح للتطور والتقدم والازدهار وثورة العشرين درس تاريخي في النضال وفي الوطنية وفي الاخلاق، ثم هي درس كبير في الاجماع الوطني المشهود.
لم تكن الثورة رد فعل شخصي ازاء تصرف فردي من اجنبي، بل كانت اجماعا شعبيا على رفض الوجود الاجنبي وتوقيعا على حقيقته الاحتلالية الاستعمارية، وادراكا سياسيا واعيا لاطماعه في ثروات العراق والتحكم في خيراته والاستحواذ على مستقبله.
في ثورة العشرين تساقطت كل الطائفيات والمذهبيات والعرقيات
لقد توالت احداث هذه الثورة انطلاقا من الفرات الاوسط والجنوب، حتى بغداد والرمادي واقصى الشمال وتساقطت فيها الطائفيات والمذهبيات والعرقيات، وتناغمت اللغات واللهجات، فاذا غردت اللهجة الفراتية \"الطوب أحسن لو مكواري\" هزجت لهجة الدليم \"هز لندن ضاري وبجاها\" ولا ندري ما الذي فاضت به لغة الكرد ولهجاتهم على لسان محمود الحفيد وابنائه الشجعان، ففي الثورات العظيمة تتواشج العرى، وتتصل الاعراق وتختلط الدماء، لترتفع لغة واحدة هي لغة الوطن، وهي اللغة الاسمى بين جميع اللغات.
كشفت تلك الثورة عن أن المستعمر مهما أوتي من قوة تتيح له احتلال الأرض وقتل الأبرياء فإنه لا يستطيع أن ينتزع منه الإحساس بالظلم والقابلية على الانتفاض لو توفرت له القيادة الحكيمة والواعية لدورها ولمسؤولياتها.. تلك القيادة التي تجسدت في هذه الثورة بالميرزا محمد تقي الشيرازي.
فهذه الاسرة من الأسر العلمية المعروفة في كربلاء ينتسبون الى جدهم الشيخ أبي الحسن الميرزا محمد علي الشيرازي المتوفى سنة 1229هجرية وهو اول من هاجر من شيراز إلى كربلاء المقدسة وسكن في محلة المخيم ولا يزال داره موجوداً حتى اليوم وقد انجب هذا البيت الجليل عدداً من العلماء الاعلام
وقال الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مدحه
ومحيى لليل التم يحمى بطرفه *** ثغوراً اضاعتها العيون الهواجـع
تكاد إذا ما طالع الشهب هيبـة *** تخـر لمـــرآهُ النجـــوم الطوالـــع
مدبر رأي كلف الدهـــر همــه *** فناء بمـا اعيابـــه وهـــو ظالــــع
مهيب إذا رام البــلاد بلفـظـــة *** تدانت لـه اطرافهـــن الشواســـع
ينام باحدى مقلتيــه ويتـقــــى *** باخرى المنايا فهو يقضان هاجع
اول مجلس استشاري تشكل في مدينة كربلاء لصد الجيوش البريطانية من جهة البصرة
احتل البريطانيون بغداد في 11 آذار 1917 بعد ان استكملوا استعداداتهم لغزو منطقة الخليج العربي من خلال عقد عدة اتفاقيات مع الشيخ خزعل والشيخ مبارك وعبد العزيز آل سعود وكانت بريطانيا تدرك موقف علماء الشيعة من احتلال العراق حيث لا يمكن أن يتقبلوا أي احتلال اجنبي استعماري للأقاليم الإسلامية وقبل أن تعلن بريطانيا الحرب على إيران والدولة العثمانية صدرت الأوامر إلى القوات البريطانية في بومبي بالتحرك نحو الخليج في 14 تشرين الثاني 1914م - 25 ذي الحجة 1332هجرية فاحتلت الفاو، ولما رأى الشيرازي الخطر محدقاً شكل مجلساً استشارياً من علماء كربلاء المقدسة ووجه الدعوة إلى رؤساء العشائر الشيعية في الجنوب وبدأ نشاطه لمنع الانكليز من تحقيق مآربهم وبدأت حركة الجهاد في العراق لصد الجيوش البريطانية من جهة البصرة وانطلقت من كربلاء وباقي المدن العراقية فكانت اول مجموعة من المجاهدين بقيادة محمد سعيد الحبوبي توجهت نحو الجنوب وكانت تلتحق بهم في الطريق العشائر والمجاهدون ولما علم الانكليز أن قلب الثورة هي كربلاء المقدسة توجه الميجر بولي إلى كربلاء مع قوة مجهزة بالسيارات المصفحة والمدافع فطوقت مدينة كربلاء في يوم الاحد الخامس من شوال سنة 1338هجرية واستعد الثوار وابناء المدينة الى مواجهة المحتلين
أول منصب رسمي وتشكيل حكومة عراقية مستقلة في كربلاء المقدسة
وفي يوم 18 ذي الحجة يوم عيد الغدير تقرر تشكيل حكومة مستقلة من خلال المجلس الحربي وكان اول قراراته تعيين مدينة كربلاء المقدسة مركز لواء وألحاق طويريج والنجف وأبا صخير والشامية اقضية تابعاة إلى كربلاء كما قرر تنصيب السيد محسن أبي طبيخ متصرفاً للواء كربلاء وتعيين السيد نور السيد عزيز الياسري قائم مقام لقضاء النجف وتلحق به الكوفة حتى أبي صخير ويكون راتبه الشهري ألف روبية وقد تبرع السيد أبو طبيخ متصرف كربلاء برواتبه إلى الثوار لسد نفقات عوائل المجاهدين ولم يبق من تلك المخصصات شيئ فكان هذا أول منصب رسمي وتشكيل حكومة عراقية مستقلة في كربلاء المقدسة ونصب عليهم حاكماً منهم وعمّها الفرح ولمس العراقيون أول ثمرة من ثمرات الثورة العراقية الكبرى تحققت باستقلال وخروج كربلاء عن طاعة الانكليز وهذا نص البيان الرسمي لمجلس قيادة الثورة:
اول علم عراقي تم رفعه في ساحة الميدان القديم في كربلاء
وبعد أن بلغ السيد أبو طبيخ وأذيع قرار المجلس في صحن الحسيني الشريف واطلع عليه أهالي كربلاء خرج أبو طبيخ من داره متوجهاً إلى مقر الحكومة الذي كان يسكنه العثمانيون سابقاً وقد استقبلته جماهير كربلاء من الرجال والنساء بجميع طبقاتهم يهتفون بحياة زعيم الثورة والحرية والاستقلال وكانت المظاهرات تسير على طول الطريق والناس تهتف والشعراء ينشدون اشعارهم معبرين عن فرحتهم وحماسهم واحتفائهم بهذا اليوم المبارك ولما وصل السيد أبو طبيخ إلى مقر المتصرفية كان العلماء والاعيان وشخصيات كربلاء وعلى رأسهم أعضاء مجلس قيادة الثورة في استقباله وفي هذه الاثناء رفع العلم العراقي ذو الألوان الأربعة والذي وصفه الشاعر بقوله: بيض صنائعنا سود وقائعنــــا *** خضر مرابعنا حمر مواضينا
وقام الحاضرون باداء التحية وبعد المراسيم الرسمية استقر السيد المتصرف على منصته واقبلت عليه الجموع لتقديم التهاني والتبريكات ثم قام سكرتير المجلس الإداري الأستاذ خليل عزمي فألقى قصيدته الرائعة التي جاء فيها: بشراك يا كربلا قومي انظري العلما *** عـــلى ربوعـــك خفاقـــاً ومبتسمـا
وكفكفي دمعـك الهطـــال وابتهجـــي *** فان بند بنـي قحطـــان قـــد حكمـــا
هذا هو العلـم المحبـــوب فاحتفـــلي *** عليه يا كربلاء واستنهضي الهمما
وشاهدي كيف امسى القلب مبتهجـاً *** من الحماس ويهفو أن يريق دمـــا
ونحن نظرتنا الخاصة تراودها الآمال في ان يكون العراق أرضا خصبة لابداع المحبة والسلام، لا تغيب فيه صورة العراقي السعيد ولا صورة نهريه العظيمين.. لا غاباته الخضر ولا قمم جباله الشم. ابداع يتناول العراقي وهو يبني حياته الجديدة ويحقق هويته الوطنية بفخر وشموخ وبضمير حي يتفجر امانة واخلاصا، من دون ان يلتفت صاحبه الى الوراء وفي حسبانه أخ له في الدين او نظير له في الخلق يقتل او يذبح مجانا بلا جريرة أو ذنب، ولعراق آمن سعيد يسوده العدل والمساواة، وتكافؤ الفرص، والوطنية الحقة، ووحدة الموقف والمصير، تنظر الآن عيون أبطال ثورة العشرين.
اعداد/ تيسير سعيد الاسدي
أقرأ ايضاً
- 400 مليون دولار خسائر الثروة السمكية في العراق
- هل ستفرض نتائج التعداد السكاني واقعا جديدا في "المحاصصة"؟
- "بحر النجف" يحتضر.. قلة الأمطار وغياب الآبار التدفقية يحاصرانه (صور)