- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
بطلة كربلاء تحمي نفسها بنفسها
حجم النص
كتب: د. فرنكلين لامب
ترجمة: زينب عبدالله
من المعروف في هذه المنطقة أن القوى الأجنبية والمحلية في معظم الدول، ولكن خصوصاً في العراق وسورية ولبنان، تعمل بشكل متزايد من أجل أهداف سياسية بحتة، لإشعال حرب دموية طاحنة داخل الإسلام. وفي الواقع، كانت هجمات السابع عشر من آذار/ مارس الجاري، التي استهدفت أربعة شيوخ سنّة في بيروت وأدت فوراً إلى قطع طرقات في بيروت وصيدا وسهل البقاع، بمثابة تذكير بهشاشة التوازن الطائفي اللبناني أمام أي اضطراب محتمل.
والتصعيد الذي يبدو متسارعاً في حقن التوتر الطائفي الشيعي السني في سوريا وداخل العراق ولبنان وخارجهما، لا يبدو آيلاً إلى نهاية بحسب المحلّلين. وقد نبّه مجلس الأمن هذا الأسبوع إلى أن تزايد العنف الطائفي في لبنان يهدّد بعودة الحرب الأهلية إلى لبنان. والطائفة المستهدفة بالتدمير، عموماً لا حصراً، هي الطائفة الشيعية، فضلاً عن تأجيج محتمل للأوضاع يلوح من اليمن إلى ليبيا وباكستان وغيرها من الدول. كما وباتت دور العبادة عرضة للهجمات بغية إيجاد مفرّ وتدمير من يُسَمّون كفّاراً وغيرهم من "أعداء الله" المزعومين.
وفي حين يستمرّ العنف في أجزاء من سوريا، لا تتّضح دائماً هويّة المسؤولين عن سرقة الآثار من المتاحف والمحلات، ونقل المعدات الطبية من المستشفيات، وسرقة محتويات بعض المصانع كما في حلب، ونقل موجوداتها إلى تركيا، مع بعض الإعتراض من جانب أنقرة، إن وُجِدَ، فضلاً عن تدمير دور العبادة المسيحية والشيعية بشكل أساسي. ولكن بعض الشكوك تحوم حول اعتبار المتطرفين الإسلاميين وراء الكثير من هذه الجرائم.
فعلى خلفية استهداف المؤسسات الإسلامية ومقامات طوائف الأقليات في سوريا، ما من عجب وبعد هجمات جديّة على مقام السيدة زينب بالقرب من ريف دمشق، وآخرها الشهر الماضي، أن المسلمين الشيعة وغيرهم على امتداد العالم، مهتمون جداً بسلامة المرقد. فالهجمات الثلاث الأخيرة على مرقد السيدة زينب بنت علي، حفيدة الرسول محمد (ص) قد أدّت أيضاً إلى التكهّن بأن يشنّ بعض العناصر هجوماً "زائفا" لإشعال صراع بين السنّة والشيعة. وقد وعدت المجموعات التابعة للقاعدة كجبهة النصرة والقاعدة في العراق بهزم حزب الله في لبنان، وذلك باسم الله.
وتجدر الإشارة إلى أن عشرات الآلاف من الحجاج الشيعة وغيرهم من جميع أنحاء العالم يزورون هذه الضاحية الدمشقية سنويّاً، ومعظم هؤلاء يأتون للصلاة والدعاء في مقام السيدة زينب. وكان هذا أحد الأسباب التي دفعتني للذهاب إلى هناك.
ولكن الوصول إلى مقام السيدة زينب لم يكن بالأمر السهل خلال الأشهر القليلة الماضية. وفي الحقيقة، ربما أصبح رقم حظّي هو الرقم 5 لأنه عدد المرات التي ظننت فيها أنني اتفقت مع السائق ليذهب بي إلى من وسط دمشق إلى مقام السيدة زينب. ولكن في كلّ مرّة، وقبل وقت قليل من مغادرتنا، كان السائق يتّصل بي ليبلّغني أحد أعذاره كأن تتعطّل سيارته، أو أن يضطرّ لحضور مناسبة عائلية، أو أن يُقصف الطريق ويصبح غير صالح للعبور، أو حتى عدم توفّر البنزين للسيارة. فسيّارات الأجرة تخاف، وهذا أمر مفهوم، من القناصين والعبوات الناسفة المفاجئة في دمشق وعلى طريق المطار. ولحسن الحظ، فإن البعض من الذين يحرسون المقام، بلغوني رسالة بأنه ما من مشكلة في قدومي، وأنا من جهتي وثقت بقرارهم. وأخيراً، وجدت سائقاً ذهب بي إلى هناك من دون أي مشاكل. ولكنه لم يكن مستعدّاً لأن ينتظرني ريثما أنهي زيارتي للمقام، بل اختفى فجأةً، حتى قبل أن أدفع له الأجرة، وتركني ليعود إلى دمشق.
وإذ خرجت من المقام، بعد تأديتي الدعاء لنفسي ولأصدقائي في لبنان وسوريا الذين أوصوني شخصيّاً بذلك، اقتربت مني امرأة في منتصف العمر تبيّن لي لاحقاً أنها من حمص، وقد خسرت منزلها وتدمّر الحيّ الذي تسكنه بعد القصف فأتت إلى هنا معتقدةً أن هذه المنطقة أكثر أماناً. ولكنها أخبرتني لاحقاً أنها أيضاً تريد البقاء بالقرب من مقام السيدة زينب بنت علي (ع)، بطلة كربلاء في القرب السابع، في هذه الأيام الصعبة.
وقد أخبرني أحد السكان المجاورين للمقام أنه وخلال الهجمات الأخيرة على المقام، قام المُفجّر بتفجير حافلة مفخخة كان يقودها في موقف للسيارات لا يبعد أكثر من خمسين متراً عن المقام. وقد حطّم الإنفجار نوافذ الضريح ومراوح السقف فيه والثريات، فضلاً عن تصدّع بعض جدران الفسيفساء في المقام. وأضاف الرجل أن المسلّحين في المقام كانوا يرغبون في محاولة تجنّب تكرار مشهد العنف الطائفي الذي أعقب هجمات العام 2006 في المسجد الشيعي للإمام العسكري في العراق، الذي اتهم فيه تنظيم القاعدة، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك التفجير حصد أرواح الآلاف من السنة والشيعة على حد سواء.
وقصة زينب في كربلاء، وحياتها بعد الحادثة، كواقعة كربلاء نفسها، تشكّل تاريخاً لا يملّ الإنسان من الإستماع إليه. لقد قرأت عن الإثنين، ولكن عندما اقتربت مني تلك المرأة المتدينة التي قالت إن اسمها هو ميريام، وأخالها عرفت أنني سائح غريب عن هذا المكان المقدّس، كان من دواعي سروري أن أجلس معها هادئاً منصتاً.
وقد لخّصت ميريام معركة كربلاء في تشرين الأول/أوكتوبر من العام 680، في دولة العراق حالياً، وكيف يحيي ذكرى عاشوراء ملايين المتدينين حول العالم بسبب رسالتها العالمية لمقاومة الظلم والسعي الدؤوب لتحقيق العدالة، وحتى التضحية بالنفس من أجل صالح المجتمع. وقد قاد المعركة أحد أحفاد الرسول (ص)، وهو الحسين بن علي (ع) وأحد أخوي زينب الذين قتلوا في ذلك اليوم، بوجه الخليفة في ذلك الوقت.
وقد دُهشت بأنه مثلي، وكما آخرين من مختلف الدول والثقافات التي عايشتها في هذه المنطقة على مرّ السنوات الماضية، من الذين قد تربوا في بيئة مسيحية، قد صوّرت ميريام مأساة الحسين بن علي وشهداء كربلاء في القرن السابع، بطريقة أشبه إلى تصوير صلب المسيح في الجلجثة، قبل واقعة كربلاء بسبعمئة عام. وكلانا مُدرك أن الآخر يفهم بالضبط هذا الإرتباط بين روح المقاومة تاريخياً التي جسّدتها كربلاء والجلجثة للبشر، وبين الأهمية للعمل معاً في الوقت الحاضر لنشكّل دعائم المقاومة من أجل الإنسانية.
ولكن ميريام سلّطت المزيد من الضوء على ما أجهله عندما ذكرت امرأة أخرى، تشبه زينب إلى حدّ ما، ولكنها من أوروبا. وإذ اجتمعت حولنا نساء إيرانيات يرتدين العبايات، بمرافقة مترجم فارسي لحديث ميريام، انطلقت المجموعة في رحلة روحية جماعية. وقد أخبرتنا ميريام أنها وخلال هذا الشهر من التعرف على إنجازات النساء، وجدت تشابها بين زينب بنت علي وبين "عذراء أورليانز" المعروفة أيضاً باسم "جان دارك"، التي اتُهِمت زورا بالهرطقة وحُرِقت وهي على قيد الحياة بسبب مقاومتها الإحتلال الإنكليزي لبلدها.
وقد شرحت ميريام الكثير من الخطوط المتوازية بين "الأختين في المقاومة" كما أسمتهما، وقد عادت بذاكرتها إلى خطاب السيدة زينب التاريخي في دمشق أمام يزيد، قاتِل أفراد عائلتها وبينهم الحسين والعباس وعشرات الموالين لهم والأقرباء في كربلاء، العراق.
ففي الحادي عشر من محرّم عام 61 للهجرة، وعقب معركة كربلاء، مشى موكب السبايا، ومعهم زينب، من الكوفة إلى الشام. وقد ظلّوا أسارى في سجن دمشق مدّة عام كامل. وقد حثّت زينب السجينات معها على المقاومة، وواجهت يزيد من دون أي خوف ذاكرةً له كلّ خطاياه. وقد ختمت السيدة زينب خطابها ليزيد بقولها له: "فوالله لن تمحو ذكرنا".
وأضافت ميريام أن زينب بنت علي، كما "عذراء أورليانز"، كانت تقيّةً زاهدةً وسخيّةً على الفقراء والمشردين والأيتام. وكلاهما دعتا الله ودافعتا بشدّة من أجل العدالة، وهي القضية التي أرادتا بذل النفس في سبيلها. ومن خلال أفعالها الخيّرة، ساعدت السيدة زينب مجتمعها في معرفة مبادئ الإسلام وتعاليمه.
أما "جان دارك" فأرسلها الملك "تشارلز السابع" غير المتوّج لحصار "أورليانز" كجزء من بعثة الإغاثة. وقد اكتسبت شهرتها بعد تغلّبها على رفض القادة المخضرمين ورفعها الحصار في غضون تسعة أيام فقط. وقد أدّت عدّة انتصارات متلاحقة على صعوبات جمّة إلى تتويج الملك "تشارلز السابع" في "الريمس" مما سرّع انسحاب البريطانيين. وبالرغم من إنجازاتها، اتُّهِمت "جان دارك" بالهرطقة. وسجلّ محاكماتها يعكس فطنتها الملحوظة بحسب ما قالت ميريام. فتبادل النص الأكثر دقّة يُعتبر تمريناً في الذكاء. "عندما سُئلت عمّا إذا كانت تعرف أن نعمة الله تحيط بها، أجابت فتاة المزرعة الأمّية بقولها: إن لم أكن محاطة بنعمة الله فأسأله أن يحيطني بها، وإن كنت محاطة بها فأسأل الله أن يبقيها كذلك". وكان السؤال بالطبع بمثابة فخّ مُحكم لمقاضاة "جان دارك". وقد اعتبر مذهب الكنيسة أن لا يمكن لأحد أن يعتبر نفسه على يقين من إحاطة نعمة الله به. فإذا أجابت "جان دارك" بنعم كانت لتدين نفسها بالهرطقة. وكما يدلّ نصّ المحاكمة الذي ما زال موجوداً، فإن الغشّ قد طغى على محاكمتها من البداية وحتى النهاية، وقد أصرّت، حتى بعد تهديدها بالتعذيب ومواجهة الموت حرقاً، على أن الله هداها لتحرّر بلدها من الإحتلال.
وقد أخبرتنا ميريام أن "إحدى الوصايا للأختين زينب بنت علي و "جان دارك" هي أن على كلّ امرأة أن تدرك أنها تستطيع دائماً أن تحقّق تغييراً إيجابياً في حياة البشر. وهي تستطيع أن تصل إلى الأفضل وتحقّقه. فالرجال لا يستطيعون وحدهم أن يحققوا الإستقلال والرخاء، وكذلك هي الحال بالنسبة للنساء. فمعاً، وتحت شعار المقاومة في كربلاء والجلجثة، وبالسير على خطى زينب و "جان دارك"، يستطيعون تحقيق العدالة وهزم الإحتلال والسيطرة".
وقد أخبرني أحد الحجاج اللبنانيين الدروز أن السيدة زينب تمثّل كلّ النساء وكلّ من يسعى إلى العدالة بوجه الإستبداد، وأن السيدة هي "كلّ امرأة" وهذا يعني أن زينب لا تنتمي للشيعة وحدهم ولا للمسلمين وحدهم، بل هي تنتمي لكلّ أصحاب النوايا الحسنة.
وما زالت السيدة زينب بنت علي ترقد بسلام في مقامها المقدّس ومثواها الأخير في جنوبي غربي دمشق. وقد تمّ إصلاح المقام وعاد يتّسم بالجمال والسكينة كما كان.
وما من شكّ في أن بطلة كربلاء التي تشكّل ملجأً للملايين تحمي نفسها بنفسها. والمسلمون من مختلف الطوائف، فضلاً عن المسيحين أمثال ميريام وغيرها، الذين يشكّلون جزءاً من ثقافة المقاومة ضد الظلم، هم حقّاً بالقرب منها. والصحيح أنه يجب علينا حماية زينب بنت علي، لأنها وكما حادثة كربلاء، تخصّنا جميعاً.
وفي حين كنت أفكر في كيفية العودة إلى دمشق وأودّع الجميع، أخبرتني ميريام أنها مسيحية. لقد فهمتني تماماً وابتسمت ابتسامة دافئة عندما أشرت إلى الضريح المقدّس معتبراً أننا، في روحنا، ما نحن إلا شيعة مسيحيون ومسيحيون شيعة.
يمكنكم التواصل مع فرنكلين لامب على بريده الإلكتروني
[email protected]
قناة المنار