من خلال الاستنتاج المتواصل لحيثيات الرأي العام العراقي( باعتباره مجموعة من الآراء التي يحملها عدد كبير من الناس حول موضوع يشغل الاهتمام العام) الرسمي والنخبوي والشعبوي والانطباعات التوصيفية والتحليلية التي يطرحها رجل الشارع كونه المعيار الأساس لمناسيب الرأي العام ، ولمجمل الإرهاصات السياسية والأمنية داخليا وإقليميا المترتبة على التداعيات المحتدمة والمتراتبة جراء التحولات المفصلية في المشهد العراقي نجد أن الكثيرين يتوجسون خيفة من عودة العراق/ دولة / سلطة / امة / إلى المربع الأول أي إلى ما قبل تغيير نيسان 2003 والارتهان مرة أخرى بمقادير الديكتاتورية الشمولية والسلطة الاوليغارشية ذات التوجه الحزبي الواحد المؤدلج والمستبد والتوليتارية المعسكِرة لجميع فضاءات الدولة والسلطة والمجتمع والمجيرة لجميع الفعاليات الدولتية والمجتمعية لصالح توجهها وسياستها ورؤاها ومنافعها.
وهو خوف وتوجس مشترك وعلى جميع الأصعدة والتوجهات والرؤى والأجندات، ناهيك عن اتجاهات الرأي العام ووسائل الإعلام بكافة سياقاتها وربما كان هذا الأمر فيه الكثير من المبالغة والتهويل والخوف \"فوبيا \" من العودة إلى الوراء وذات السيناريو الذي اقض مضاجع العراقيين طيلة عقود عجاف من الاكتواء بنار الشمولية الشوفينية / الطائفية وتخبط الديكتاتوريات المتعاقبة في وحل التهميش والإقصاء والمركزية المقيتة وقد يكون لهذا الخوف الذي يصل بالبعض إلى درجة الإحساس بالمازوشية المتجذرة في نفوسهم.. يكون ما يبرره ويعلله ويفسره في حين أن البعض يرى انه من المستحيل العودة إلى المربع الأول بعد أن صار في ذمة التاريخ سيما فترة التسلط البعثي الأول 1963 / والثاني 1968 ـ 2003 وهي الفترة الأكثر ظلما وظلاما وقتامة وانحطاطا وانهداما وكوارث ليس على المستوى التاريخي الحديث أو المعاصر بل على مجمل التاريخ العراقي .
فهو إذن توجس عراقي عام تتدرج خطوطه البيانية بحسب التعاطي مع هذا الملف الذي ظل متفاعلا مع مفاصل وحيثيات المشهد الأمني والذي شهد مستويات متفاوتة من الانحدارات والانتكاسات الدموية وصلت في بعض مراحلها إلى شفا الحرب الأهلية والتي في حال وقوعها فان المربع الأول لا يصبح مجرد هاجس متوهم او متوقع بل يصبح حقيقة ملموسة يجد العراقيون أنفسهم مرة أخرى في منطقة الصفر وطريق اللاعودة .
وبالمقابل فان العالم لم يشهد قفزة نوعية مماثلة استراتيجيا أو تكتيكيا ولم يرَ تغييرا عموديا من ما يسمى بالمربع الأول (الديكتاتورية / الفاشستية / التوليتارية / العسكرتارية / الشمولية / الاستبداد / الظلم/ سياسة الحديد والنار والتهميش السياسي والطائفي والقومي والعرقي ..) الى \"مربع\" آخر يفترض إن يكون على النقيض تماما من منطقة / مرحلة / المربع الأول وطاردا عنه كل \"جيناته\" الحاملة للموروثات الناقضة للديمقراطية والليبرالية والتقدم والتداول السلمي للسلطة والتعايش الأهلي المرتكز على قواعد العقد الاجتماعي وتقبل الآخر المختلف.. لم يشهد العالم قفزة كالتي شهدها العراق من انتقالة نوعية \"طفرة\" وعلى كافة الأنساق الدولتية والسلطوية والحكوماتية والتاريخية والمجتمعية والاقتصادية وغيرها وأيضا لم يشهدها ضمن السياقات القانونية والدستورية فضلا عن الفلسفية المعتمدة في تفسير ماهية الدولة ومقارباتها ووظائفها وتفسير انطولوجيتها وبناها التحتية والفوقية من ناحية كونها كيانا سياسيا وقانونيا منظما يتمثل من مجموعة من الأفراد المقيمين على ارض محددة ويخضعون لتنظيم سياسي وقانوني واجتماعي ويتمتع بحق استخدام القوة ..وكانت تلك القفزة بالانتقال من دولة (أو اللادولة ـ ما قبل الدولة) والتي ليس لها تفسير دولتي منطقي قانوني او فلسفي معقول حتى بين الأنساق الأكثر استبدادا وبربرية (الدولة العراقية الحديثة 1921 ـ 2003) الى دولة لها كاريزميتها الدولتية ضمن مقاربات منطق الدولة / وآلياتها السلطوية ومواصفاتها الجيوبولوتيكية وميكانيكياتها المؤسساتية وفضاءاتها الجيوسياسية التي تضعها على مضمار الخارطة السياسية العالمية وتكون عضوا فاعلا ومتفاعلا ومؤثرا ومتأثرا في المجتمع الدولي وان كانت الدولة العراقية المنتجة بعد التغيير النيساني مازالت تراوح مكانها على الساحتين الاقليمية والعالمية ولم تبرح مكانها عن خانتها العالمثالثية التي لا تليق بها ورغم أن العودة إلى خانة المربع الأول هي أشبه بالمستحيل إلا أن المشهد العراقي مازال يعيش هاجس تلك العودة كونه ما يزال في منتصف الطريق مابين اللادولة التي ذاق العراقيون جميعهم مرارتها وحصدوا خيبات فشلها التأسيسي المزمن ومابين الدولة المؤمل إنتاجها وانجازها وإنجاحها واستمرارها ، وكون أيضا مازالت بعض ملامح هذا المشهد لم تكتسب مواصفات الدولة المتحضرة والمنعتقة من ركامات الماضي وانهيارات الزلازل السياسية والانهدامات المجتمعية المتلاحقة التي فتتت النسيج المجتمعي العراقي والانسحاقات الاقتصادية والتنموية التي جعلت من الشعب العراقي يعيش تحت مستوى الفقر وكون المشهد العراقي ما يزال يعيش تحت هامش المربع الأول المتوجَّس منه وفي ظل تداعياته المتراكمة بعدم التحرر كليا من سطوة البناء الطوائفي والاثني والعرقي والقومي المتجذر في المخيال السياسي والسيوسولوجي العراقي نخبويا وشعبويا ذلك البناء الذي اعتمد كوصفة توافقية جاهزة لاحتواء التداعيات والاسقاطات المترتبة عن التغيير النيساني.
كما ان الدولة العراقية الحديثة ما بعد التغيير لم تتوضح بعدُ ماهيتها الكلية أو تترسخ بناها التحتية والفوقية ولم تكتمل نهائيا مؤسساتها الناشطة يضاف الى ذلك إن الوعي الشعبوي المتشارك والمتفاعل مع الفعاليات السياسية والحزبية ومنظمات المجتمع المدني والذي يجب أن يتناغم مع الآليات الديمقراطية لم يزل هو الآخر يحبو في خطواته الأولى في المشوار الديمقراطي والمضمار الليبرالي فضلا عن أن المنهج التحاصصي الذي اعتمدته النخب السياسية ساهم مساهمة فعالة في تكريس الانشطارات العمودية في البنية التحتية السياسية والمجتمعية للشعب العراقي ما جعل التحرر من ميراث المربع الأول يحتاج إلى وقت أطول ووعي اكبر لتتسارع الخطى نحو الدولة بعبور مرحلة اللادولة نهائيا وللتخلص نهائيا من هاجس المربع الأول الذي مازال كابوسه يحوم فوق الرؤوس .
إعلامي وكاتب عراقي [email protected]
أقرأ ايضاً
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول
- الأولويّةُ للمواطنِ وليسَت للحاكم
- العراق وطن الانبياء ومسجد ومرقد الأولياء