... واخيرا، انتهت الانتخابات الخاصة بمجالس المحافظات في العراق، وفاز فيها من فاز، وخسر فيها من خسر.
وبذلك يكون العراقيون قد تقدموا خطوة جديدة نحو بناء النظام السياسي الديمقراطي الدستوري الجديد، الذي يعتمد، بدرجة كبيرة، على صوت الناخب العراقي الذي يدلي به في صندوق الاقتراع بارادته الحرة.
والانتخابات فوز لكل العراقيين، فهي انتصارهم على الاستبداد والديكتاتورية والارهاب الذي بذل كل جهده، وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، من اجل ان لا يشهد العراق مثل هذا اليوم، ولكن ابى العراقيون الا الصمود من اجل صناعة النصر المؤزر، وهم يحثون الخطى في الاتجاه الصحيح.
ان صندوق الاقتراع يمكن ان يساهم في بناء العراق الجديد، وان يكون عامل استقرار اجتماعي وسياسي، بشروط عدة، منها:
اولا: المرشحون الذين فازوا في هذه الانتخابات بثقة الناخب، عليهم ان يتعاملوا منذ هذه اللحظة، كممثلين للجميع، وليسوا للحزب او القائمة او التيار الذي رشحهم.
انهم يتسنمون مسؤولية موقع يخص الجميع، ولذلك يجب ان يقدموا خدماتهم للجميع، من خلال النظر بعين المساواة لكل الناخبين، سواء اولئك الذين صوتوا لصالحهم، او لم يصوتوا لهم.
ثانيا: لا يعني ان الفائز في الانتخابات، هو افضل الموجودين، فكلنا نعرف، وهم يعرفون قبل غيرهم، ان هناك عوامل عدة ساهمت في فوزهم، الى جانب ضربة الحظ التي تلعب دورا في احيان كثيرة.
تاسيسا على ذلك، فان على الفائز تقع مسؤولية البحث عن الطاقات والكفاءات الخيرة والخلاقة لمنحها فرصة الخدمة العامة، بما يساهم في تعزيز التمنية والتطور والتقدم والنجاح، على طريق خدمة الناخب، وهذا يتطلب من الفائز، بالدرجة الاولى، التحلي بروح الوطنية والمسؤولية، بعيدا عن الحزبية الضيقة والولاءات العشائرية وغيرها.
اضف الى ذلك، فان اشراك كل الخبرات والكفاءات، بغض النظر عن انتماءاتهم وولاءاتهم، يكرس الوحدة الوطنية، وهي امر مهم جدا ومطلوب في هذه المرحلة من مراحل تاريخ العراق الحديث.
ثالثا: اما الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز بثقة الناخب، فعليهم؛
الف: ان لا يعتبروا ان هذه الانتخابات هي نهاية المطاف، فيصابوا بخيبة امل، ابدا، فان امامهم فرص متجددة ومتكررة، بامكانهم ان يفوزوا بها خدمة للشان العام، شريطة ان يعيدوا النظر بانفسهم، ليشخصوا مواطن الخلل التي تسببت بهزيمتهم في الانتخابات.
باء: ان يبادروا فورا الى تهنئة الفائزين، لتوكيد اللحمة الوطنية، ولاظهار اقصى درجات الشفافية، ليثبتوا للراي العام العراقي، تحديدا، بانهم يحترمون خيارات الناخب، حتى اذا فاز بها غيرهم.
على الجميع العمل من اجل انهاء حالات الانقسام التي تصيب الشارع، عادة، عند كل انتخابات، لان بقاءها في الشارع لا يساعد على التقدم، كما ان الانقسام يعرقل الاستقرار، وهو الامر المطلوب لنتفرغ للبناء والخدمة الحقيقية لهذا الشعب الابي.
رابعا: على الفائز ان يتذكر دائما بانه وصل الى موقع المسؤولية بما تقدم به من وعود وعهود للناخب، ولذلك فان عليه ان يبذل كل ما في وسعه وطاقته من اجل ان يفي بالتزاماته، وينفذ وعوده، وليتذكر، كذلك، فان هذه الانتخابات ليست خاتمة المطاف، فقد يخسر الجولات القادمة اذا لم يلتزم بوعوده ولم يحقق ما تعهد به للناخب.
خامسا: اما الناخب، فعليه ان لا يتصور ابدا بان مسؤوليته الدينية والوطنية قد انتهت عند عتبة صندوق الاقتراع، بل انها بدات من عنده.
عليه ان يستمر متحملا مسؤولياته ازاء نفسه واهله وابنائه ووطنه، من خلال تفعيل مبدا المحاسبة والمراقبة، للمرشح الذي فاز بصوته، فيحتج عليه اذا سوف ــ بتشديد الواو ــ ويتظاهر ضده اذا قصر، ويفضحه اذا مد يده ظلما الى المال العام، ويعاقبه اذا ارتشى او ميز او منع بغير حق.
سادسا: ان امام الفائزين تشخص مسؤوليتين؛
الاولى، الكشف عن اخطاء الفترة الماضية، لتصحيحها وترميمها، او تغييرها ان لم يكن بالامكان التصحيح لشدة اعوجاجها، طبعا، بلا تهريج او تسقيط.
ان عليهم ان يبادروا فورا الى اصلاح العطل في كل مفاصل العمل والادارة، فان ذلك، كذلك، يساعد كثيرا على الانطلاق باتجاه البناء والاعمار.
عليهم ان يشنوا حملة شعواء ضد الفساد المالي والاداري، الذي ينخر كالسوسة في مفاصل الدولة، وان عليهم ان يبداوا بانفسهم اولا.
الثانية، الانطلاق بالمشاريع الجديدة وعلى مختلف الاصعدة، ليشعر الناخب بان عهدا جديدا حقيقيا طور البزوغ، وليطمئن على جدوائية حضوره عند صندوق الاقتراع، لاسقاط رهانات الذين حاولوا تثبيط الناخب عن المشاركة فيها، بحجة انها لا تجدي نفعا او انها لن تغير شيئا.
عليهم ان يباشروا فورا بالتخطيط والعمل، وان يبداوا بالاولويات، فعندها فقط يمكن ان يعيدوا للشارع العراقي الثقة بحكوماته المحلية، فبعد ان شبع العراقيون كلاما معسولا وشعارات رنانة، لا يقنعهم الا العمل ليعودوا يثقون بالمسؤولين.
على الفائز ان يثبت بان المشاركة في الانتخابات لها الدور الاول في عملية التغيير، فالقضية ليست في تغيير الوجوه وانما في تغيير الرؤية والبرامج والعقلية والاولويات والهمم، او هكذا يجب ان يكون الامر، وعلى الفائز تقع مسؤولية اثبات ذلك بالفعل والعمل لا بالقول، وبالتغيير الملموس على الارض وليس بمعسول الكلام والثرثرة.
طبعا هذا لا يعني ان ينتظر الناخب من الفائز معجزة في التغيير، فالمشوار لا زال طويلا امامنا، ولكن اقول، يجب ان يبدا الفائزون البداية الصحيحة هذه المرة، من خلال الاستفادة من اخطاء الماضي، الذاتية او اخطاء الغير، لا فرق، فـ (العاقل من استفاد من اخطائه او اخطاء غيره) ليكسب الجهد والزمن.
سابعا: بالنسبة للفائزين، فاذا تعارضت مصالح الناس مع مصالح القائمة التي ينتمون اليها، فان الواجب الشرعي والوطني، وكذلك العقل والمنطق، يفرض عليهم ان يميلوا الى مصالح الناس، وان ينحازوا اليهم، لانهم، بعد فوزهم، يكونون ملك الناس وليس ملك القائمة.
عليهم ان يتحاشوا عقاب الناس، فان عقابهم اشد من عقاب القائمة.
فضلا عن ذلك، فان من مصلحتهم ومن مصلحة قائمتهم ان يميلوا لجانب مصالح الناس، فان ذلك يمنحهم فرصة الفوز بمقعد المسؤولية في المرة وربما المرات القادمة.
على الفائز ان يعمل منذ اللحظة لصالح الناس كما لو انه سيترك الموقع غدا، كما ان عليه ان يميل الى جانب الناخبين كما لو انه باق في موقعه ابد الدهر، فان في ذلك مصلحته في الدنيا والاخرة، ان كان يؤمن بالله واليوم الاخر، ويحب الوطن والمواطن.
ثامنا: ان التنافس الانتخابي ينتهي لحظة ان يضع الناخب بطاقته الانتخابية في صندوق الاقتراع.
لذلك، يجب على الجميع، فائزون وخاسرون، ان يقلبوا صفحة التنافس الانتخابي، ويبداوا فورا بالتنافس على فعل الخير والعمل الصالح {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}.
وكما هو معروف، فان هناك فارق كبير بين هذين النوعين من التنافس، فالاول بما يصاحبه من تضخيم وادعاء وربما كذب وبهتان وتهجم وتسقيط، وغير ذلك من الوسائل والادوات التي تصاحب التنافس الانتخابي عادة، وفي اي بلد من بلدان العالم، حتى الحر والديمقراطي، يزرع احيانا بذور الفرقة والبغضاء والكراهية والحقد بين الفرقاء، اما الثاني فهو اقرب الى الواقعية، والى الصدق والمحبة، لان في النوع الاول ينتظر المرشح ان يمتطيه ليفوز على منافسه، اما في الثاني فينتظره الناخبون لينفذ ما يقول ويحقق ما يدعي، ولذلك، ففي الاول ليس في دعايته ضريبة، اما في الثاني ففيه ضريبة وثمن يجب ان يدفعه الفائز، ولذلك لا يكون دقيقا في الاول واكثر دقة وحسابا في الثاني.
ولاننا نريد ان ننهي كل الصور والانعكاسات السلبية التي يتركها التنافس الاول، لذلك يجب وقفه فورا فلا نظل نشمت او نتنابز، قد ننجر بسببه الى ان نمتطي روح الانتقام فنخسر الكثير، عندما نلتهي بالفعل ورد الفعل الذي لا طائل من ورائه ابدا.
لا يحق لاحد ان ينتقم من خصمه او ممن لم يصوت لصالحه.
على الجميع ان يضع الخلافات، ومن اي نوع كانت، جانبا، لننطلق يدا بيد نحو البناء والاعمار، مرورا بالقضاء على الفساد المالي والاداري الذي ظل ينخر بجسد الدولة العراقية الجديدة.
تاسعا: ان نتائج هذه الانتخابات، فرصة ثمينة لتصحيح خطا استراتيجي ارتكبه زعماء وقادة العراق الجديد، بعيد سقوط الصنم، بغض النظر عن الاسباب، الا وهو مبدا المحاصصة والتوافق، اللذان شلا الدولة العراقية وعرقلا انجاز الكثير من المشاريع، كما انهما طعنا بجوهر الديمقراطية وشوها صورتها، الديمقراطية التي تعتمد مبدا {صوت واحد لمواطن واحد} اذا بنا نرى ان من يمتلك صوتا واحدا تحت قبة البرلمان، يساوي ويعادل من يمتلك عشرة اصوات مثلا.
المؤمل هذه المرة، والواجب على الجميع، ان يوظفوا نتيجة هذه الانتخابات لتصحيح هذا الخطا، فليتحمل الفائز بها المسؤولية كاملة، وليؤدي الخاسر فيها دور الرقيب والمعارضة الايجابية، كما هو معمول به في كل الدول الديمقراطية.
وللعلم، فان الديمقراطية لا تتاسس بلا معارضة ابدا، وان البلاد لا تتقدم بالسلطة وحدها ابدا، لان التقدم يطير بجناحين هما جناح السلطة وجناح المعارضة، وهذا ما يتطلب ان تتحمل السلطة المعارضة، وان تقدر المعارضة جهود السلطة، فلا تسقيط او تشهير او انتقاص او قمع، ومن قبل اي من الطرفين، فهل رايتم طيرا يكسر جناحه، ظانا انه يستطيع ان يطير بجناح واحد؟.
يلزم ان تكون نتائج هذه الانتخابات، بداية حقيقية للتغيير، والذي يجب ان يبدا كل فائز من نفسه، فيحارب اللصوصية المقنعة بالقانون، والهدر بالمال العام، والمحسوبية والمحاباة بكل اشكالها، بعيدا عن المحاصصة والتوافق.
عاشرا: النقطة الجوهرية التي يجب ان يتذكرها كل العراقيين، المرشحون والناخبون، الفائزون وغيرهم، هي، ان السلطة في العراق الجديد ليست كل شئ، فالدولة والوطن اكبر بكثير من السلطة، التي هي ليست اكثر من خندق من خنادق الخدمة العامة، ولذلك يجب ان لا نرى انفسنا في السلطة فقط، بل ان هنالك مجالا واسعا وافقا كبيرا جدا يمكن توظيفه للخدمة العامة، فهناك مؤسسات المجتمع المدني والاعلام والثقافة والتربية والعمل الاجتماعي الطوعي والحياة الحزبية، وغيره الكثير الكثير.
في العراق الجديد لا يجوز ان ينحصر اهتمامنا بالسلطة فقط، اذ يجب ان يولي (عهد السلطة) والى الابد، العهد الذي لم يكن العراقي ليجد نفسه الا في السلطة، والا سحقته عجلاتها وهشمت عظامه، فلذلك لم نرالمواطن، وقتها، الا متآمرا لينال السلطة او مصفقا لها لينال الحضوة عندها.
حادي عشر: ان الانتخابات وصندوق الاقتراع وسيلة لتحقيق الديمقراطية، وان الديمقراطية بدورها اداة لتحقيق هدف اكبر واسمى، الا وهو تغيير حياة الناس نحو الافضل، وتحسين مستواهم الاجتماعي، لتحقيق الكرامة الانسانية.
ان من المهم جدا ان لا يتحول صندوق الاقتراع الى هدف بحد ذاته، بل يجب ان نبقى ننظر اليه كوسيلة لتحقيق التغيير الاجتماعي من خلال التغيير الاقتصادي في ظل الامن والاستقرار.
يجب ان تظل عيوننا تشخص باتجاه التمنية وعلى مختلف الاصعدة، واقول بصراحة، فان قياس ونجاح الفشل لاداء مجالس المحافظات الجديدة، يجب ان يعتمد على قياس درجة التغيير الذي سيلمسه المواطن في حياته اليومية، ان على صعيد المستوى المعيشي او على صعيد التربية والتعليم والصحة، مرورا بالترفيه والاستقرار النفسي، وليس انتهاءا بالتطور العمراني والمدني الذي يجب ان يشهده العراق الجديد، فبعد كل هذه الجهود (العظيمة) والاموال الطائلة التي بذلها المرشحون، للفوز بصوت الناخب، لا ينبغي ان يكتفوا بالقفز الى مقاعدهم ليجلسوا عليها منتفخين، ويستانسوا بحركتها الدائرية ناسين او متناسين الناخب الذي حملهم بصوته الى هذا المكان، بل يجب ان يكون الفوز بالمقعد بداية العمل الدؤوب والمثمر والناجح من اجل حياة افضل لكل مواطن.
ان العبرة ليست في انجاز الانتخابات، وانما فيما يترتب عليها من انجاز للمشاريع، كما ان العبرة ليست في كل هذه الحملة الانتخابية التي صكت اسماعنا وملات عيوننا واشغلت العراقيين ليل نهار، وانما العبرة في التخطيط والتنفيذ ودرجة التغيير الذي يرتقبه الناخب.
اخيرا: على القوائم الانتخابية ان تبادر لمحاسبة من فاز من عناصرها، قبل ان يحاسبوا ــ بضم الياء ــ فيراقبوا اداءهم، ويتتبعوا حركاتهم وسكناتهم وعلاقاتهم وطريقة تصرفهم في موقع المسؤولية، ليشعر الناخب بامانة القائمة وحرصها على الشان العام.
همسة في اذن الناخب
اعلن المسؤولون (الاتحاديون منهم والمحليون) عن حزمة قرارات هامة في مصلحة المواطن العراقي، خلال حملاتهم الانتخابية، ما يعني بشكل واضح انها قرارات (انتخابية) ارادوا بها كسب صوت الناخب.
تعالوا،جميعا، ندعو الله تعالى ونتضرع اليه ليمكننا من اجراء الانتخابات عند راس كل شهر، لنشهد حزم قرارات بشكل دائم، فلا يؤخرها المسؤولون الى راس كل اربع سنوات.
السؤال: الا يعني ذلك انهم قادرون على اتخاذها اذا ارادوا؟ اكرر، اذا ارادوا؟.
ثم، الا يعني ان تاخيرها مؤشر على التقاعس والتسويف والتكاسل، وان التاخير والتاجيل لا يعود الى اسباب حقيقية، كما يتحجج دائما المسؤولون؟.
و... الا يعني ذلك ان المواطن على حق عندما يطالب بها وينتظر انجازها؟.
أقرأ ايضاً
- الصيد الجائر للأسماك
- ضمانات عقد بيع المباني قيد الإنشاء
- إدمان المخدرات من أسباب التفريق القضائي للضرر