- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
"والله لا يحب الفساد".. قراءة في كلمة الحاج "حامد الخفاف" بمهرجان الصادقين السادس 2023
بقلم: نجاح بيعي
يتبادر الى ذهن من يحضر احتفالية ذكرى ولادة النبي الأكرم (ص وآله) المشفوعة بذكرى ولادة الإمام الصادق (ع) أن يشهد كلمات التهنئة والتبريك وخطب الحفاوة بسيرته (ص وآله) العطرة, المزدانة بإضاءات عن مناقبه العظيمة وكفاحه في توطيد عرى الإسلام وجهاده في تثبيت أركانه, على مدى سنيّ حياته الشريفة قبل وأثناء وبعد البعثة حتى استشهاده (ص وآله), ولكن الأمر ليس كذلك مع الحاج (حامد الخفاف) مدير مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) في لبنان, في مهرجان الصادقين الشعري (السادس) المنعقد في بيروت.
فكلمته في المهرجان الذي حمل عنوان متفرد هذه المرة ومُلفت للنظر هو: (والله لا يحب الفساد)
والذي أقامته جمعية آل البيت (عليهم السلام) الخيرية في بيروت بتاريخ 3 تشرين الأول 2023م, كان لها وقع كبير من نوع آخر غير الحفاوة المعتادة أو التهنئة والتبريك كما هو متعارف.
فاختيار (الفساد) كموضوع في مثل هذه المناسبة الجليلة, والمستوحى من الآية رقم (205) من سورة البقرة: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وإذا تولَّى سعى في الأرض ليُفسِد فيها ويُهلِك الحرث والنّسل واللّه لا يُحبّ الفساد﴾, وجعله شعاراً للمهرجان, يحمل رسالة مفادها هو أن من غير المعقول أن يتم الإحتفاء بولادة رسول الله (ص وآله) في وسط أجواء آفة ضاربة أطناب أمته حتى بات خطرها يُهدد ثوابتها الإسلامية وقيمها ومبادئها.
فكلمة مدير مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) في لبنان كانت بحق صرخة أو صرخات بوجه الجميع ليس فقط في العراق أو لبنان كبلدين غارقين بالفساد, بل في وجه جميع دولنا ومجتمعاتنا ومؤسساتنا الإسلامية, وهو تأسيس جديد لأن تكون ذكرى ولادة الصادقين منبر أو (منصة لمحاربة الفساد), وحري بها أن تكون كذلك في محاولة منها (أي مِن تلك المنصة) لتضم صرخة الأدب المسؤول عبر الشعر إلى صرخات المحرومين، والنخب النزيهة المطالبة بمكافحة الفساد، الذي نخر دولنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا، ومبدداً الطاقات والإمكانات والآمال والفرص (كما عبر في كلمته).
ومن سمِع أو استمع كلمة الحاج (الخفاف) بإمكانه أن يتعرف على بعض تلك الصرخات ذات الأصداء المدوية حقاً ,والتي أريد لها أن تكون رسالة مهرجان الصادقين (عليهم السلام) السادس لهذا العام:
الصرخة الأولى: إن جريمة الفساد بمستوى قتل الناس جميعاً !
1ـ أوضح (الخفاف) بأن لفظة (الفساد) واشتقاقاتها قد وردت في القرآن الكريم حوالي (50) مرة, كاشفاً بأن الفساد موجود منذ بدء الخليقة بعد أن استشهد بالآية الكريمة: (أتجعلُ فيها مَن يُفسد فيها ويسفك الدماء..)(1), وهي الآية التي أنزلت الفساد الى منزلة قتل الناس جميعاً. وهذا علة تبنيه التعريف الشامل لـ(الفساد) والذي استقاه من كتاب (الإصلاح ومكافحة الفساد في دولة الامام علي (ع) ص 27) للشيخ (خليل رزق) هو أنه : (كل سلوك لا يلائم كل ما هو أخلاقي، قيمي، عقلائي في سلسلة العلاقات الإنسانية), وما ذلك إلا لحصول الإختلاف في تعريف (الفساد) باختلاف موضوعاته. (فهناك الفساد الأخلاقي، والديني، والإداري، والإقتصادي، والإجتماعي، والقانوني، والسياسي، والثقافي، والقضائي، والإعلامي، وغيرها). حتى خلص الى القول بأن: (الفساد الإقتصادي والمالي هو أُس كل فساد، وهو الذي يمهد لكافة أنواع الفساد).
2ـ الفاسدون منافقون في طبعهم. فترى الفاسد يتلون ويتمظهر خلاف ما يبطن دائماً جرياً وراء تحقيق منفعة أو مصلحة ما له. فتراه صالحاً متعبداً مرة, ومرة بطلاً ورمزاً للإصلاح, أو (أيقونة للنزاهة). ومن علاماته أنه (لا يقبل النصيحة) بشهادة الآية: (وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزَّةُ بالإثمِ)(2), وهذا بطبيعة الحال (والكلام للخفاف) لا يُبقي مع الفاسد ناصح ولا مستشار مؤتمن. وهو ما قاله الإمام الصادق (ع) لطاغية عصره: (من أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك)(3).
3ـ يذهب مدير مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) في لبنان, الى أن الشرك بـ(الله) على فداحته وعظيم خطره, حينما يكون وحده ليس (سبباً لإهلاك الناس إذا كانوا غير فاسدين), وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: (إنّ الله لا يغفرُ أن يشركَ به ويغفرُ ما دون ذلك لمن يشاء)(4). والمعنى: (أنه لا يُهلكهم بمجرد الشرك وحده، حتى ينضم إليه الفساد في الأرض، كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء)(5). ويُلفت (الخفاف) النظر الى أن (الفساد الإقتصادي والأخلاقي كانا سبباً في هلاك الأقوام السابقة.. وعلى هذا يجب أن يكون الصلاح والفساد معياراً للتقييم وليس غيرهما من معايير ربما تكون شكلية)!.
الصرخة الثانية: سببان جعلا الفاسدين ينجحون في مسعاهم الفاسد !
حينما يلفت ممثل المرجعية العليا النظر الى أن: (الفساد لا دين له ولا طائفة ولا مذهب ولا عرق) وأن: (الدين الحقيقي براء من الفساد والمفسدين), هذا لأن الفاسدين قد تلفعوا برداء الدين زوراً وتمترسوا وراء الطائفة والمذهب والعرق كذباً, لتمرير (مخططاتهم) أو (للإفلات من العقاب). وهذا خطورته عظيمة جداً لوقوع الإشتباه عند البعض, وهذا البعض يغتر بهم مما يقوي شوكتهم ويدعم نفوذهم وتسلطهم. ولطالما نجحوا في ذلك للأسف لسببين لا ثالث لهما:
1ـ لقوة تأثير التجييش الطائفي والقومي لهم من جهة
2ـ ولضعف الوعي العام عند الناس من جهة أخرى
وصدق الشاعر العراقي (وليد الأعظمي) حينما صاغ مصداق النتيجة الحتمية عند نجاح الفاسدين في مسعاهم ذاك, شعراً فقال:
إسلامنا لا يرى فينا له تبعاً
إذا رآنا لأهل الظلم ننقادُ
صلاتنا لا يراها اللهُ قائمةً
ويحكمُ الناسَ فسّاقٌ وفسّادُ
وكان مدير مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) في لبنان قد أشار الى خطر مداهم أعظم وأفسد مِن فساد المتمترس بالدين ألا وهو: (المستأكلُ بالدين)!. فقد ورد عن الإمام علي (ع): (المستأكل بدينه حظه من دينه ما يأكله)(11). وورد عن الإمام السجاد (ع): (..وإياك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً).
يقول (الخفاف): (وظاهر هذه النصوص انها تخاطب العاملين في المجال الديني أو الذين يعملون تحت إطار شعارات دينية, لأن مُتع الفساد ومنافعه الظاهرية من أخطر أحابيل الشيطان التي يبتلى بها هؤلاء، ومن هنا قال الإمام علي (ع): "تخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الاجتهاد ـ وفي رواية ـ طول الجهاد)(12). وعلى الروايتين، فالمعنى خطير وبالتدبر جدير، إذ لا ينفع مع الفساد كثرة عبادة واجتهاد، كما لا ينفع مع الفساد تاريخ كفاح وجهاد)!.
فبالنتيجة يضعنا الكلام وجهاً لوجه أمام أهم أخطار الفساد ألا وهو: (إنهيار قيمة الإنتماء للوطن). أما كيف؟. فـ(الخفاف) يجيبنا: (وذلك لتزايد الشعور داخل الفرد بعدم الرضا يتبعه انخفاض متزايد أيضاً في شعوره بالإنتماء إلى وطنه.. وبأن الوطن الذي يعيش فيه ليس وطنه. وإنما وطن الفاسدين والسارقين!.وهذا سيفضي بطبيعة الحال إلى مفاسد عظيمة أخرى يصعب حصرها مثل: (التسيب، وعدم الإنضباط، وقلة الدافع للعمل، وضعف المبادرة والإبتكار، والإستغلال الوظيفي، وهجرة العقول، والإختلاس من المال العام وإهداره بسوء الإستخدام المتعمد، وتأخير مصالح الناس، وإضاعة حقوق الدولة، والتخريب المتعمد للمنشآت الحكومية وغير ذلك). وهذا ما يشهده مواطنوا أغلب بلداننا ومجتمعاتنا (والعراق وشعبه ليس ببعيد) الذين يعيشون هذا الشعور المحبط للأسف.
الصرخة الثالثة: رسول الله (ص وآله) رائد محاربة الفساد !
1ـ وهو ما زخرت به كتب التراث الروائي في تصديه لظواهر الفساد في المجتمع الإسلامي. ويُنقل ما ورد عن رسول الله (ص وآله) أنه قال: (...ما بالُ عاملٍ أبعثهُ، فيقولُ: هذا لكُم، وهذا أُهْدِيَ لي، أفلا قَعَدَ في بيتِ أبيهِ، أو في بيتِ أُمّهِ، حتّى ينظُرَ أيُهْدَى إليهِ أم لا)(6). فالهدية للمسؤول حسب ما ورد في الحديث (رشوة واضحة وباب فساد).
2ـ وقال (ص وآله) أيضاً: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)(7) أي خيانة. فالمسؤول هو (موظف يستلم راتبه من أموال الشعب، وما يحصل عليه غير ذلك بحكم موقعه فهو فساد).
3ـ وورد أيضاً عنه (ص وآله): (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة له.. فعليه لعنة الله) أَو قال: (بَرَأَتْ منهُ ذمَةُ اللَّه)(7).
4ـ وقال الإمام علي (ع) في عهده إلى مالك الأشتر: (ثم أنظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنهما جماع من شعب الجور والخيانة..). لذلك فأي مسؤول يوظف على أساس المحسوبية والمحاباة والقرابة فهو فاسد.
5ـ وقال النبيّ (ص وآله): (العبادة مع أكل الحرام كالبناء على الرمل)(8). وهي رسالة صارخة للذين يتلفعون برداء الدين المستأكلين به الذين هم في مواقع السلطة والنفوذ.
الصرخة الرابعة: الإمام علي (ع) أول مَن كشف ذمته المالية للشعب وأول مَن أسس لمبدأ مِن أين لك هذا !
فالتاريخ نقل لنا قول أمير المؤمنين علي (ع) لأهل الكوفة: (دخلت بلادكم بأسمالي هذه، ورحلي وراحلتي ها هي، فإن أنا خرجت من بلادكم بغير ما دخلت، فإنني من الخائنين)(9). وبهذا يكون (ع) قد قدم كشفاً بذمته المالية للشعب وكان أنموذجاً يُحتذى لكل مًن تسنم مسؤولية عامة في المجتمع. كما وأسس أمير المؤمنين (ع) لمفهوم (من أين لك هذا؟) حينما خاطب أحد أصحابه قائلاً: (فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نَقَدْتَ الثمن من غير حلالك, فإذاً أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة)(10). يقول (مدير مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) في لبنان: (لكن وللأسف أن هذا المفهوم قد أخذ طريقه عالمنا المعاصر وشرعت له قوانين ولوائح وضوابط ولكنها (لم تغادر مظانها من ملفات وكتب، إذ بقيت حبراً على ورق، لا تجد طريقها إلى عالم التطبيق في أغلب بلداننا، رغم أنها من أهم مطالب الناس الدائمة).
الصرخة الخامسة: صرخات سيستانية !
أبرز (الخفاف) في كلمته بشكل مقتضب وافي كيف أن (موضوعة الفساد ومكافحته تحظى بأولوية قصوى لدى المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف)، وكيف جُعلت المعيار بل (الفيصل الأساس في تقييمها لأداء المسؤولين صغاراً كانوا أم كباراً، إدّعوا الإنتماء إليها والإلتزام بنهجها أم لم يدّعوا. فالعبرة بالعمل والممارسة وليس بالكلام المعسول). واستعرض أمام الجميع صرخات السيد (السيستاني) ومطالباته في مضمار مكافحة الفساد وفي مضمار الشأن العام:
ـ(لقد طالب سماحة السيد السيستاني دام ظله مراراً وتكراراً بضرورة مكافحة الفساد، والضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه التطاول على المال العام. وأفتى بوجوب احترام القوانين المرعية الإجراء وحرمة تجاوزها.
وأفتى بأن المال الذي يستحصله أي موظف أو مسؤول خلافاً للقانون هو سحتٌ حرام، كما أن إهدار المال العام والإستحواذ عليه بل مطلق التصرف غير القانوني فيه حرام. وأدان سوء استغلال السلطة من قبل كثير ممن انتخبوا أو تسنموا المناصب العليا في الحكومة، ومساهمتهم في نشر الفساد وتضييع المال العام بصورة غير مسبوقة وتمييز أنفسهم برواتب ومخصصات كبيرة، وفشلهم في أداء واجباتهم في خدمة الشعب وتوفير الحياة الكريمة لأبنائه. وانحاز سماحته دام ظله بوضوح إلى الحراك الشعبي المطالب بالإصلاح في كل مراحله، بمواقف معلنة وصريحة. كما أنه دام ظله حث الناس في الانتخابات للتمييز بين الصالح والطالح، أي بين من بذل ما يستطيع في خدمة الناس ومكافحة الفساد وبين من لم يعمل إلا لمصلحة نفسه وجماعته. ولقد حذر السيد السيستاني دام ظله المسؤولين من خطورة الفساد المقنن أي تشريع قوانين تمنح امتيازات غير مستحقة لفئات معينة, أو تفتح أبواب الفساد أو تسهّله للفاسدين، وهو من أسوأ أنواع الفساد، وقد طالب مراراً بالعمل على تشريع القوانين التي تعزز مبدأ العدالة الإجتماعية، وتلامس هموم الناس وآلامهم وآمالهم.
ولكن لا حياة لمن تنادي)!.
الصرخة السادسة: المرجعية العليا ولأهميتها تتبنى مضامين كلمة الحاج (حامد الخفاف):
إقدام موقع مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) على نشر كلمة (الخفاف) التي ألقاها في مهرجان الصادقين الشعري (السادس) المنعقد في بيروت وتثبيتها عليه, لهو تبني واضح لجميع مضامين الكلمة أولاً, ودعوة للجميع (الأمة) الى مطالعة مضامين تلك الكلمة وتبنيها فعلاً كونها ستبقى بالمتناول ثانياً, وصرخة سيستانية مستمرة ما دامت منشورة على الموقع ثالثاً, ورابعاً يندرج خطاب كلمة (الخفاف) هذه ضمن خطاب المرجعية الدينية العليا العام, الذي اعتدنا عليه ولم يبتعد أو يشذ عنه قيد أنملة.
الهوامش:
ـــــــــــــ
ـ(1) سورة البقرة آية 30
ـ(2) سورة البقرة آية 206
ـ(3) كشف الغمة للأربلي ج 2 ص 208
ـ(4) سورة النساء آية 48
ـ(5) فتح القدير للشوكاني ج 2 ص 534
ـ(6) صحيح البخاري ح 2457ـ صحيح مسلم ح 1832
ـ(7) كتاب (فضيلة العادلين من الولاة) لأبو نعيم الأصبهاني ص 101 ح9
ـ(8) سفينة البحار ج 1 ص 299
ـ(9) المناقب ج 2 ص 98
ـ(10) نهج البلاغة الرسالة 3
ـ(11) تحف العقول160
ـ(12) غرر الحكم ج 1 ص 320
أقرأ ايضاً
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟
- مسؤولية الأديب في زمن الاحتضار.
- الآثار المترتبة على العنف الاسري