- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
هويتي الثقافية الوطنية كعراقي - الجزء الاول
بقلم: نجاح بيعي
نسمع بين الفينة والأخرى أصوات منفردة من زعامات سياسية نافذة، تدعو بلا مواربة المثقفين العراقيين والكفاءات والنخب الى حراك ثقافي ـ مفاهيمي وتطلب منهم الإتفاق على تعريف (واحد) جامع للهوية الثقافية العراقية. حتى غالت تلك الأصوات وطالبت الدولة وفي مقدمتها الحكومة، الى تكليف المؤسسات المعنية للمشاركة في ذلك الحراك, وصب الجهد في وضع التعريف الجامع للهوية الثقافية للعراق حتى يتم اعتمادها.
وقبل أن نسـاءل أنفسنا: (هل فعلاً لا توجد هوية ثقافية وطنية جامعة للشعب العراقي, حتى نبحث عن هوية ؟) نذكر في السياق بعض أوجه الحراك الحكومي في هذا المجال, حيث أقامت المستشارية الثقافية لرئاسة مجلس الوزراء, في أواخر نيسان من العام الجاري 2023 مؤتمرها العلمي الأول والمتخصص بالهوية الوطنية العراقية في أحد فنادق بغداد, وهو حراك نخبوي ـ ثقافي نعتبره صحياً في ذاته, ولا بأس بالحوار الثقافي الذي من شأنه أن يوجه البوصلة نحو جني ثمرة التعرف على الهوية الجامعة للمجتمع العراقي, حيث كان الهدف من هذا المؤتمر هو بحث تلك النخب الأكاديمية عن ملامح تلك (الهوية الوطنية) وسبل تعزيزها واعتمادها.
ولكننا وللأسف وجدنا الخيبة كل الخيبة حينما نرى المؤتمرون يغرقون شيئاً فشيئاً وهم يقدمون أفكارهم الأولية المختلفة والمتخالفة التي اشتملت عليها أوراقهم البحثية, وينجذبون بشكل قسري نحو مستنقع الإنقسام والتشتت, حتى راح يبرز كلٌ حسب خلفيته الثقافية والدينية والإجتماعية والإثنية وغيرها هويته الثانوية والفرعية وتضخيمهما على حساب الهوية الثقافية (الأم) الجامعة لكل العراقيين, في نقاش وجدل عقيم أفضى الى (تيه) النخب الحاضرة في المؤتمر تماماً, و(تشظيهم) بين المفاهيم والعناوين والمسميات وهم يدافعون عنها بكل إصرار, مما اضطر مستشار رئيس مجلس الوزراء للشؤون الثقافية الراعي للمؤتمر, إلى تحويل المؤتمر برمته إلى جلسة (عصف ذهني) حسب تعبيره، بعد إياس وضوح ملامح الهوية الثقافية الجامعة لدى المجادلين المتشظين, ظناً منه أن بعصفه الذهني هذا قد يسهم في إثراء النقاش المحتدم من أجل التوصل الى مفهوم عام للهوية الثقافية الجامعة للمجتمع العراقي, والخروج بتوصيات يرفعها إلى رئاسة مجلس الوزراء, ولكنه (زاد الطين بله) حينما بادر هو الآخر بإغراق الجلسة بسيل من التساؤلات السفسطائية المقصودة التي زادت من ذلك الشرخ والتصدع في الأجواء مستهلاً خطابه بالتساؤلات التالية:
ـ ما هي الهوية الجامعة؟
ـ هل هي الدين؟ أم اللغة؟ أم العادات؟
ـ هل نملك كعراقيين هوية نتوحد بها وننطلق منها؟ أم أننا شعوب متعددة وأمم مختلفة تجمعنا الجغرافية ويفرقنا التاريخ؟
ـ هل سومر وبابل وآشور وأكد هويات حضارية تجمعنا، أم أنها هويات نهرب إليها بعيداً عن حاضرنا المأزوم, وبعيداً عن الدين والطائفة, نلوذ بحمورابي ونتكئ على كلكامش ونحنُّ لسرجون الأكدي؟.
ـ هل نملك هوية واضحة ومحددة؟
ـ هل نحن عروبيون أم دينيون أم مذهبيون أم علمانيون؟
ـ هل نحن أبناء الديمقراطية أم أبناء الديكتاتورية أم أننا أضعنا الطريقين؟
خلاصة القول..
بعد التمعن في سلسلة طرح الأفكار والتساؤلات, نلمس أن مقدمات المؤتمر وما حوى من جدل مفاهيمي عقيم حول تحديد الهوية الجامعة بالمقارنة مع المخرجات له, أن المؤتمر يهدف أصلاً الى ترسيخ مفهوم عدمية (الهوية الثقافية) الجامعة, بل توجيه الجهد الحواري الى محقها إن وجدت, وأن الـ(تعددية) للهوية الثقافية العراقية هي (الهوية ـ الحاكمة) في الوسط كـ(هوية) جامعة, بل يجب أن تكون هكذا, ويجب أن تحظى أن تكون (التوصية) النهائية التي أريد لها أن تكون, وتُرفع كورقة عمل وتقدم الى الحكومة لتتبناها مؤسسات الدولة ولا شيء غيرها, كما ونلمس أيضاً بأن الجدل العقيم الذي دار في أروقة المؤتمر مزعوم مع سبق الإصرار, وأن التشظي والشرخ والتصدع والتيه في تحديد ملامح (الهوية) الجامعة, صناعة مفضوحة من أجل ترسيخ مفهوم قهري لـ(التعدد) للهوية الذي تفوح منه رائحة المحاصصة السياسية العطنة, التي أريد لها أن تكون وجه العراق الحضاري كما يظنون ويحلمون. وهي محاولة بائسة من أجل محق الهوية الثقافية الجامعة التي تم التحذير منها كما سنرى.
ـ هل فعلاً لا يملك العراقيون هوية ثقافية جامعة توحدهم؟.
ـ وإذا كانت هناك هوية ثقافية جامعة توحدهم فما هي أركانها؟. وما هي ركائزها؟. ومَن الذي أشار إليها وحدد أبعادها وأعطى لها زخماً لاعتمادها لا يحول ولا يزول؟.
الجواب هنا: نعم.. يملك العراقيون هوية ثقافية وطنية جامعة واضحة محددة بكل تأكيد, هوية لا تعدم وجود هويات ثقافية وطنية أخرى, وأن الذي نبّه إليها وأشار إليها وأبرز أركانها وأوضح مرتكزاتها وأعطى لها زخماً لاعتمادها لا يحول ولا يزول هو السيد السيستاني (دام ظله الوارف).
ـ كلمة لا بد منها:
نقول للبعض الذي يشكل من ذكر السيد السيستاني: إنا نستشهد دائماً بمواقف وأقوال وحكم المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالسيد السيستاني (دام ظله) كونها الجهة الدينية ـ الإجتماعية القوية الفاعلة في عراق ما بعد عام 2003 وللآن هذا أولاً, وكونها الطرف الذي لا يبحث عن المصالح الدنيوية في تحقيق مصالح البلد والشعب ثانياً, وكونها تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة متكونة من ملايين الناس من عموم الشعب العراقي بمختلف مكوناتهم الدينية والمذهبية والإجتماعية والعرقية ثالثاً, وكونها تمثل صوت الضمير للمواطن العراقي المعبر عن همومه وتطلعاته وآماله ومطالبه وحقوقه, وتنطلق في تحركها من رصيدها الجماهيري المليوني الناشيء من ثقة تلك الملايين من الجماهير بحصافة رأيها وسداده وحكمته, وذلك حقها الطبيعي الذي يُقره الجميع رابعاً(1). فمن الطبيعي والحال هذا أن المرجعية الدينية العليا هي المعنية بالدرجة الأساس قبل غيرها من الجهات والأطراف في تثبيت ملامح الهوية الثقافية الوطنية للعراق والإشارة إليها واعتمادها.
ـ الهوية..
الهوية كلمة تنسب الى الضمير (هو). وهي تدل على مجمل الصفات والميزات والسمات الأساسية (هويات ـ قومية) التي يشترك بها أفراد مجموعة بشرية ما, كاللغة ورابطة الدم والثقافة والأرض وغير ذلك, بحيث يُعرفون بها ولا تنفك عنهم بحال, وتميزهم بنفس الوقت عن غيرهم من باقي أفراد المجموعات البشرية الأخرى. وفي المجتمعات والشعوب اليوم نجد في الأعم الأغلب صفات وميزات وسمات أساسية أخرى (هويات ـ وطنية) تشترك بها المجموعات البشرية بعضها مع البعض الآخر, بحيث يُعرفون بها ولا تنفك عنهم بحال, كالدين والوطن والحضارة والتاريخ المشترك والدولة والمواطنة وغير ذلك.
ـ السيد السيستاني هو الذي أشار الى الهوية الثقافية الجامعة..
في إحدى أجوبة مكتب السيد السيستاني أسئلة صحيفة (الواشنطن بوست) عام 2003م حول أكبر خطر وتهديد لمستقبل العراق أجاب سماحته: (خطر طمس هويته الثقافية التي من أهم ركائزها هو الدين الإسلامي الحنيف). في استقتاء آخر أضيفت العبارة التالية: (والقيم الإجتماعية النبيلة)(2).
ـ وفي إجابة أخرى حول (العلاقة بين الدين والدولة) قال سماحته: (يُفترض بالحكومة التي تنبثق عن إرادة أغلبية الشعب أن تحترم دين الأغلبية وتأخذ بقيمه ولا تخالف في قراراتها شيئاً من أحكامه).
إذن.. وانطلاقاً من النصوص السيستانية أعلاه نعرف ونتأكد بأن المرجعية الدينية العليا ممثلة بالسيد السيستاني قد أشار الى أن الإسلام ومجمل القيم والعادات الإجتماعية ـ العراقية النبيلة المستمدة من الدين الإسلامي هو الهوية الثقافية الوطنية الجامعة (الموحَدة والموحِدة) لكل العراقيين. وألزم الحكومة المنبثقة عن إرادة أغلبية الشعب العراقي أن تحترم دين الأغلبية الذي هو هوية المجتمع العراقي حقيقة, بل وتأخذ بقيمه وأيضاً لا تخالف في قراراتها شيئاً من أحكامه, لأن ذلك مثبت في الدستور الذي صوت عليه أكثرية الشعب العراقي.
ماضرّ شمس الضّحى في الأفق طالعة
أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
ولكننا نحسن الظن بالجميع.
ـ بعض صفات الهوية الثقافية الوطنية الجامعة (الموحَدة والموحِدة) والتي تميزها عن غيرها:
ـ أن الإسلام هو دين الأغلبية الساحقة للشعب العراقي على نحو الإستغراق
ـ الإسلام والقيم النبيلة المستمدة منها ركيزة تلك الهوية الثقافية الوطنية الجامعة
ـ أنها تتربع على قمة هرم باقي الهويات الثقافية الأخرى للمجتمع العراقي, وتظللها وتستوعبها وأن أكبر الخطر والتهديد لمستقبل العراق يكمن في محق وطمس تلك الهوية الوطنية (الإسلام والقيم النبيلة)
ـ أنها لا تتعارض أو تتقاطع أو تتنافى مع باقي الهويات الثقافية (القومية والوطنية) كالعرق والدم واللغة والثقافة والأرض والدين والوطن والحضارة والتاريخ المشترك والدولة والمواطنة وغير ذلك
ـ أنها تشتمل على عامل قوة البقاء والديمومة والإستمرار
ـ أنها تشتمل على عامل الحصانة الذاتية والمنعة والثبات أمام كل أشكال التحديات المصيرية
ـ أن لها القدرة والقابلية على توحيد جميع الهويات الثقافية لدى جميع المكونات الإجتماعية بما في ذلك الهويات الحضارية الضاربة جذورها في التاريخ كالحضارة السومرية والبابلية والأكدية والآشورية وغيرها
ـ أن الجغرافيا والتاريخ يتعانقان بود تحت ظل هذه الهوية الجامعة بلا تعارض أو تمايز
ـ أنها تمتاز بالسمو والرفعة الدائمين, فهي فوق كل أشكال المفاهيم والمبادئ الضيقة والمأزومة والفتنوية والشائهة كالعروبية والمذهبية والعلمانية والديمقراطية والديكتاتورية وغير ذلك
ـ يتبع..
الهوامش:
ـــــــــــــ
(1)ـ خطبة صلاة جمعة كربلاء الثانية في 9/8/2013م
(2)ـ وثيقة رقم (13) و(14) من النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول