- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
جريمة الغش بوسم المصوغات في التشريع العراقي
القاضي د.حبيب ابراهيم حمادة
ترتب على التطورات العلمية في مجال الصناعات عموما وتحديدا في وسائل الإنتاج وطبيعة المواد المنتجة وانماط الاستهلاك وانظمة العرض والتسوق، والتبادل التجاري، ان ازدادت المخاطر التي يمكن ان يتعرض لها المستهلك اكثر مما كان عليه سابقاً وذلك عن طريق الغش التجاري والذي يعد افة اجتماعية انتشرت في السنوات السابقة بغية تحقق الكسب غير المشروع والربح السريع على حساب المستهلك والذي يمكن ان يقع في كافة المعاملات التجارية الخاصة بالمواد الغذائية او الادوية او المصوغات وغيرها، وذلك ما دفع المنظمات الدولية من اتخاذ القرارات المناسبة للحد منها، ومن ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المرقم 428/39 لسنة 1985 والذي اقرت بموجبه المبادئ العامة لحقوق المستهلك، والتي تم اعتمادها كمبادئ توجيهية على الدول الاعضاء الالتزام بها في اطار قوانينها الخاصة بحماية المستهلك.
وتعد المصوغات بانواعها المختلفة من ثروات الدخل القومي للدولة، وذلك بسبب اهميتها في دعم الاقتصاد الوطني، الامر الذي يوجب المحافظة عليها وحمايتها من خلال وضع آليات قانونية للحد من ارتكاب جريمة الغش فيها والحيلولة دون التلاعب بها بأي شكل من الاشكال من خلال وضع علامة او وسم مميز لها يتم تحديده من قبل الجهة الادارية المختصة بذلك بحيث تعطي دلالة على عيار الفلز النفيس في المصاغ او السبيكة، اضافة الى انشاء اجهزة متخصصة رقابية عليها ونشر الوعي الاستهلاكي بين المواطنين بهدف حماية المستهلك الوطني. ويعرف الغش التجاري لدى الفقه بتعاريف متعددة، ومنها (كل فعل عمدي ينصب على سلعة معينة بشكل مخالف للقواعد المقررة لها في القانون او في اصول الصناعة ومن شأنه ان ينال من خواصها او فائدتها، كما عرف بانه (كل تغير او تعديل او تشويه يقع على الجوهر او التكوين الطبيعي لمادة او سلعة معدة للبيع ويكون من شأن ذلك النيل من خواصها الاساسية او اخفاء عيوبها او إعطاؤها شكلا او مظهر سلعة اخرى تختلف عنها في الحقيقة وذلك بقصد الاستفادة من الخواص المادية او الانتفاع بالفوائد المستخلصة والحصول على فارق الثمن) او هو (اخفاء حقيقة البضاعة بتغيرها تغييرا ماديا حتى تصبح شيئا اخر واظهارها بغير مظهرها الحقيقي بعد التغيير).
ويشترط لتحقق جريمة الغش بوسم المصوغات ما يشترط في الجرائم الاخرى توافر اركانها المتمثلة بالركن المادي والركن المعنوي والركن الشرعي، فالركن المادي للجريمة يتمثل بالسلوك الاجرامي للبائع بغية الايقاع بالمشتري سواء كان ذلك السلوك بفعل ايجابي ام سلبي، وهو ينصب حول ذاتية المصوغات او صفاتها او الجوهرية او اصلها او مصدرها او مقدارها او عيارها، ويقع الركن المادي للجريمة بعدة اساليب منها الاضافة او الخلط او الانقاص او التغيير وغيرها، اما الركن المعنوي للجريمة فهو القصد الجنائي المتمثل بانصراف ارادة المتهم الى ارتكاب الواقعة الجرمية مع العلم باركانها كاملا هادفا بتحقيق النتيجة الاجرامية، وبالتالي تكون جريمة الغش التجاري من الجرائم العمدية، اي ان هذه الجريمة لا يمكن ان تقع عن طريق الخطأ او الاهمال، فاذا ما وقع الفعل باهمال المتهم وكان حسن النية فلا يمكن تكييف الفعل كونه جريمة الغش التجاري، اما الركن الشرعي للجريمة فهو النص القانوني الذي يجرم الفعل المرتكب ويحدد العقوبة المناسبة له، اذ لا جريمة ولا عقوبة الا بنص القانون.
وتظهر الاثار السلبية للغش التجاري من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة اذ ان اثارها الاجتماعية تتمثل بزعزعة الثقة في التعامل التجاري بين البائع والمشتري بحيث يصبح التعامل بينهما قائم على الشك المتبادل بعدما كان قائما على الثقة والامان سيما ان الغش في كافة المعاملات يتنافى مع قواعد الشريعة الاسلامية والاخلاق الحميدة الواجب التقيد بها وعدم خرقها لغرض تحقيق هدف غير مشروع يتمثل بالربح السريع غير المشروع، اما آثار الغش من الناحية الاقتصادية فيمكن ان تظهر من خلال التأثير على اقتصاد الدولة سلبيا كونه يؤدي الى هدر رؤوس الاموال المستثمرة بالداخل الامر الذي يؤدي الى خلق بيئة طاردة للاستثمار وما ينجم عن ذلك من حرمان الدولة من العملة الاجنبية وزيادة نسبة البطالة في المجتمع وتراجع الدخل القومي وانتشار الفساد المالي والاداري.
وقد عالج المشرع العراقي جريمة الغش بوسم المصوغات بموجب احكام قانون وسم المصوغات رقم 83 لسنة 1976 المعدل، اذ عرفت المصوغات الذهبية بموجب أحكام المادة (1) منه بانها القطع المعدنية المصنوعة التي تحتوي على تسعة قراريط ثلاثمائة وخمسة وسبعين جزءا من الالف من الذهب النقي على الاقل، اما المصوغات الفضية فهي القطع المعدنية المصنوعة التي تحتوي على ستمائة جزء من الالف من الفضة النقية، بينما عرفت المصوغات البلاتينية كونها القطع المعندية المصنوعة التي تحتوي على ثلاثمائة وخمسين جزءا من الالف من البلاتين النقي على الاقل.
واوجب القانون على الصائغ الحصول على اجازة ممارسة مهنة الصياغة وفق الشروط الواردة في المادة (2/اولا ) من القانون اعلاه ومنع القانون من بيع او رهن المصوغات الذهبية او الفضية او البلاتينية او عرضها للبيع او حيازتها بقصد البيع، ما لم تكن موسومة بالعيار القانوني وباحدى العلامات التي ورد النص عليها في الجدول رقم (1) الملحق بهذا القانون، وفق ما ورد عليه النص بالمادة (2) منه، كما لا يجوز اجراء التصرفات المذكورة اعلاه بالمصوغات المستوردة الا بعد اجراء الفحص عليها من قبل دائرة وسم المصوغات ما لم تكن تلك المصوغات موسومة بعلامة احدى الدول الاجنبية المعترف بصحة علامتها بقرار من وزير التجارة وقد حددت المادة (8) من القانون العيارات القانونية للمصوغات الذهبية والفضية والبلاتينية وفق التفاصيل الواردة فيها.
وقد اجاز القانون وفق احكام المادة (15/ اولا منه ) لدائرة الوسم ان تفرض العقوبات الانضباطية بحق الصائغ عند مخالفته احكام هذا القانون، والمتمثلة بعقوبة لفت النظر او الانذار او المنع من مزاولة المهنة او سحب الاجازة، دون ان يخل ذلك بالنصوص العقابية الاخرى، ويكون للصائغ حق التظلم اما الجهة الادارية عند فرض عقوبة المنع من مزاولة المهنة خلال مدة خمسة عشر يوما من تاريخ تبليغه بالقرار ولا يوجد مبرر من منع الصائغ من التظلم من بقية العقوبات الاخرى من جهة، ومن جهة اخرى فان التظلم من فرض عقوبة المنع من مزاولة المهنة انما يكون اما الجهة الادارية وهي وزير التجارة، ويكون قرار الوزير بهذا الشأن قطعياً وفق ما ورد بالفقرة ( ثانيا )من المادة المذكورة ولكون النص المذكور لا زال نافذا ولم يتم الغاؤه او تعديله بتشريع لاحق او بحكم قضائي، وهو مخالف لاحكام المادة (100) من الدستور العراقي المالي لعام 2005 بنصها (يحظر النص في القوانين على تحصين اي عمل او قرار اداري من الطعن) الامر الذي يتطلب إلغاءه قضائيا من قبل المحكمة الاتحادية الموقرة وقد تم تقديم طلب بهذا الشأن من قبلنا لهذا الغرض.
ومتى ما تم وسم المصوغات بانواعها المختلفة بالوسم المقرر لها قانونا، فان إحداث أي تغيير او تعديل منها لاحقا, سواء تم ذلك بطريق الاضافة او الابدال او اية طريقة اخرى، بحيث تصبح غير مطابقة للعيار الموسومة به، فان ذلك الفعل يعد جريمة جنائية توجب تطبيق احكام المادة (17) من القانون والمتضمنة فرض عقوبة الحبس لمدة لا تزيد عن ثلاث سنوات او بالغرامة او بكلتا العقوبتين كما ان تلك العقوبة يمكن ان تفرض على كل شخص قام ببيع هذه المصوغات او عرضها للبيع او كان حائزاً لها بقصد البيع او تعامل بها باية طريقة كانت، اما في حالة ما اذا تم التصرف بالمصوغات بالتصرفات المشار اليها اعلاه، دون ان تكون موسومة بالعيار القانوني، بغض النظر ان كانت تلك المصوغات موجودة داخل العراق او تم استيرادها من الخارج، فان العقوبة المقررة لذلك الفعل هو الحبس لمدة لا تزيد عن سنتين او الغرامة او بهما معاً، وفقا لاحكام المادة (18) من القانون، ونظماً لما ترتبه هذه الجرائم من اثار سلبية على الاقتصاد الوطني عموما، وعلى المستهلك المحلي خصوصا، الذي يمكن ان يخسر من جراء ارتكابها مبالغ مالية ضخمة، فان المطلوب هو تشديد العقوبات المشار اليها اعلاه، سيما انها من جرائم الاحتيال والتي حدد المشرع لها عقوبة الحبس المطلق في المادة 456/عقوبات، ولا مبرر لتخفيفها في المادتين (17و18) من القانون.
أقرأ ايضاً
- جغرافية الجريمة
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى
- جريمة عقوق الوالدين "قول كريم بسيف التجريم"