- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق والتغير المناخي - الجزء الثاني
بقلم: حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الاسبق
إلقاء اللوم على عوامل خارجية هي افضل طريقة للهروب من المسؤولية. فبعكسه على المسؤول ان يكون صادقاً مع المجتمع، إن كان مدركاً للمواضيع التي يعالجها، مثل موضوعة التغير المناخي او القوانين والأتفاقيات الدولية وآليات تنفيذها، فضلاً عن مدى حرصه وحرص الحكومة على احترام التزامات العراق فيها.
أما اذا لم يكن مدركاً لها، وهذه الحالة هي الغالبة، فيلجأ الى تصريحات خادعة هدفها إمتصاص غضب المواطنين من نقص الخدمات او تدهور نوعيتها، دون تقديم أي التزام يسهم في تخفيف معاناتهم او تحسين الخدمات المقدمة من قبل حقيبته الحكومية.
كثير من تلك التصريحات الشفاهية، أي غير الموثقة كتابياً، والتي لم تنتج عن بحث او تجارب مختبرية او حقلية أو نظرية، يتداولها الإعلام ووسائل التواصل، تصبح أيضاً باباً لإقناع الحكومة للقيام بتمويل مشاريع فاشلة (كسد مكحول وتحويل قناة البدعة الى انابيب بمبالغ مليارية لا تحل 10% من مشكلة تزويد البصرة بالمياه الخام الصالحة للإستخدام المنزلي بعد المعالجة)، أو لطلب المساعدات الدولية لدعم العراق في بناء القدرات عن طريق التدريب الذي غالباً ما يجري خارج العراق (راجع سجل ايفادات منتسبي وزارة البيئة على وجه الخصوص والوزارات الأخرى وتصريحاتهم عن صندوق المناخ الأخضر والأصحاح البيئي وما شابه ذلك من مصطلحات تزيد الغموض غموضاً لدى العامة) والأمثلة كثيرة لا يتسع هذا الحيز لسردها.
يفكر المسؤول إياه في لفت الأنظار الى “الخارج” الذي يلقى عليه اللوم. فأن كان الخارج هو المناخ فلا خوف طبعاً من التصريح ضده، ولا مجاملات لأنه لا احد يتكلم بإسم المناخ، بل هو الشيطان المتسبب بكل هذا الخراب، ولا ضريبة تفرض على تكرار اتهامه بالتسبب بالجفاف وعواصف الأتربة وارتفاع حرارة الصيف. وهو يتيح “للخبراء” والمسؤولين حالة من الأسترخاء وكيل التهم كما يشاؤون دون رقيب ولا حسيب، ويوفر وسيلة لتوفير الأموال والمزيد من التدريب خارج العراق.
أما اذا كان الخارج، المتسبب ببعض ما نعانيه هو جهة ملموسة، أي دولة جارة مثلاً، لها أنصار وأتباع وأذرع وفيها مصالح، فيرافق تلك التصريحات ملحقات إضافية مفصلة على القياسات الظرفية، تكون على شكل مجاملات زائفة مثل “أنهم يتقاسمون الضرر معنا”، دون اي إشارة الى صيغة القسمة ان كانت مادية او معنوية، ولا للكيفية التي يمكن ان يلمس بها المواطن كرم “المشاركة بالضرر” من ذلك الجوار. وفي حال وجود موجة تأجيج ومظاهر رافضة لطرف جار وتدخلاته في ظل الوضع السياسي المتوتر في البلاد، يلجأ المسؤول الى ركوب موجة الإستعداء بصورة شعبوية يتخيلها تزيد من شعبيته دون ان يدرك مغزى ما يتحدث به.
المثال الصارخ على هذا السلوك الأنتهازي المخادع هو رفع شكوى لدى الأمم المتحدة. وفي ظهور تلفزيوني متكرر سمعنا عن الشكوى في مجلس الأمن الدولي، ثم في محكمة العدل الدولية، ثم في مجلس حقوق الأنسان، حسب الأهواء او كما يرد عفوياً في حديث مرتجل لشخص لا يفرق بين وظائف هذه الأجهزة الأممية الثلاثة، ولا طرق وآليات عملها، ولم يقم بتوثيق “الجرم” او حجم الضرر الذي يتحدث عنه من اجل تقديمه في الشكوى المفترضة، ولم يستشر فريقاً أو شخصاً مختصاً لمعرفة الكيفية التي تعمل وفقها أليات رفع الشكاوى ضد طرف دولي. هذا فضلاً عن الجهل بالإلتزامات القانونية المترتبة عل العراق نتيجة اتفاقيات او معاهدات نافذة سبق للعراق ان التزم بها قانوناً، وهي تتضمن آليات فض النزاعات بين الأطراف، وكمثال على ذلك اتفاقية الجزائر لعام 1975 بين العراق وإيران.
ما ينقص هذه التصريحات التي تلقي اللوم على المناخ، او على الجوار الجغرافي حسب درجة الأنتهازية السياسية، هو الحقيقة المؤلمة التي يجب إطلاع الشعب عليها، وهي أن ما حدث ويحدث في العراق هو مسؤولية وطنية داخلية أولاً وأخيراً.
فبقدر تعلق الأمر بالتدهور في الوضع المائي والبيئي والزراعي حصراً، فإن الحكومات العراقية المتعاقبة وبتصميم وبقرارات سياسية وعسكرية، كما حصل في عهد النظام الصدامي، إذ قام بتجفيف الأهوار وتدمير القرى الكردستانية وتهجير سكانها، وألحق الريف العراقي بتنظيمات سياسية ذات ولاءات محددة أصبحت معها حماية الأراضي وفلاحتها أمراً ثانوياً أمام تحقيق أهداف الأمة والحزب الحاكم. هذا فضلاً عن خوض سلسلة الحروب التدميرية والعدوانية ضد الداخل والخارج، والتي أدت بمجملها الى تدمير البنى التحتية وركائز الطاقة، وتجريف والتسبب بموت ما يقرب من 20 مليون شجرة نخيل في البصرة وجوارها فقط.
إما في عهد ما بعد 2003 فقد جرى التدمير البيئي وتدهور خدمات المياه نتيجة مباشرة للفساد وتشابك الصلاحيات بين المركز والمحافظات والإقليم، والتعدي على أملاك الدولة، والتجاوز على الفضاءات الحرة في المدن لبناء “مولات” تجارية وما لذ وطاب من المطاعم والمقاهي والدكانين التي تبيع كل انواع البضاعة المتجمعة على أرصفة الشوارع، والأستحواذ على محرمات الأنهر، وتغيير جنس الأرض بعد التجاوز عليها من أراضٍ زراعية مثلاً الى سكنية وصناعية يجري انشاؤها تحت أعين الحكومة بعقود استثمارية باذخة، ورمي الفضلات الصحية في الأنهار والسواقي، وترك القمامة تتراكم في الأحياء، والسماح بتمدد العشوائيات وانفتاح السوق للإستيرادات غير المسيطر عليها، وإغفال توسيع وتجديد البنى التحتية في المدن، وعدم تطوير بدائل للمياه الصالحة للشرب، والفشل في معالجة مياه المجاري وعشرات المآسي الأخرى.
أليس من الغرابة مثلاً أن تدرج الحكومة العراقية على عجالة وتمول مشروعا كبيراً فاشلاً مثل سد مكحول في ظل ازمة مائية مستعصية، وفي نفس الوقت يجري تجفيف الأهوار وتعجز الحكومة عن القيام بواجباتها في تقديم المساعدات الإغاثية للسكان المحليين؟
كيف يتوفر المال للمشاريع الفاشلة الملغاة ولا تتوفر نسبة قليلة منه لأنقاذ ضحايا جفاف الأهوار؟ هل هناك عاقل يعتقد بأن موت الجواميس ونزوح الناس سببه التغير المناخي.
يتبع ..
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة