- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
سلطة القاضي على الشرط الجزائي في العقود
بقلم: د. اسامة شهاب حمد الجعفري
ما الشرط الجزائي؟ و هل إدراج قيمة الشرط الجزائي في العقود يسلب من القاضي سلطة الرقابة على مدى عدالته و يتحتم الحكم به كما هو محدد في العقد؟ اشكالية قانونية ظهرت على اثر التداعيات الاجتماعية الناشئة عن قرار محكمة البداءة المتخصصة بالدعاوى التجارية و القاضي بالزام (مصرف الرافدين –شركة عامة-) بدفع مبلغ 600 مليون دولار الى شركة بوابة عشتار للنظم و خدمات الدفع الالكتروني عن قيمة الشرط الجزائي المثبت بالعقد رقم 1/2021 المؤرخ في 4/3/2021 بالدعوى ذات العدد 205/تجارية/2021.
فقد يخل احد المتعاقدين بالتزاماته من خلال عدم تنفيذها او التأخير في التنفيذ, مما يستحق للطرف المتضرر الحق في التعويض , و الاصل في طريقة تحديد مقدار التعويض هي من مهام القضاء , و لكن قد يحدد الطرفان مقدماً مقدار التعويض اذا ما اخل المدين بالتزامه و يدرج هذا الاتفاق على مقدار التعويض في العقد الاصلي كشرط من شروطه و هذا هو “الشرط الجزائي” و طبيعته القانونية انما هو تعويض اتفاقي على مقداره. و قد اجازت الفقرة(1) من المادة (170) من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة 1951 للمتعاقدين ان يحددا مقدماً قيمة التعويض بالنص عليه في العقد او في اتفاق لاحق.
و تتعدد الاغراض من الشرط الجزائي الا ان اهم غرض يهدف اليه ادراج الشرط الجزائي في العقد هو تجنب تحكم القضاء او التخفيف من تحكمه في تقدير التعويض و تحاشي النزاع الذي قد يثور بشأن ركن الضرر من حيث وجوده او انعدامه و من حيث طبيعته. لذا هو يتضمن تحايل على احكام القانون , لان الاصل في تقدير التعويض هو ان يتولاه القضاء فان الشرط الجزائي يعد طريقاً استثنائياً لتحديد التعويض , لذا يجب تفسير النصوص القانونية التي تنظم الشرط الجزائي بكل دقة و عمق دون ان يستسهل تطبيق هذا الطريق الاستثنائي و اعتباره طريقاً عادياً و احلاله محل وظيفة القضاء في تقدير مقداره و ان يقتصر تطبيقه على الحالات التي قصدها الطرفان دون توسع. كما انه اتفاق تبعي لا يستقل بذاته و لا يقصد لذاته فهو يقع بمناسبة اخلال احد الطرفين بالعقد و لا يجوز ان يكون غاية العقد و سببه فقد يتفق الطرفان على ابرام عقد صوري غايته الاستحواذ على مبلغ الشرط الجزائي من دون اي تنفيذ لالتزاماته. لذا قد يعمدون الى المغالاة في تقديره و بسبب قابلية تحول الشرط الجزائي الى شرط تعسفي غير عادل لاحد الاطراف تصدى القانون المدني العراقي لتنظيم احكامه و منح القاضي سلطة الرقابة على الشرط الجزائي, من خلال ملاحظته في مدى تناسب او عدالة قيمة الشرط الجزائي , فمن حق القاضي ان يتدخل و يخفض قيمة الشرط الجزائي اذا ما كان فيه مغالاة في تقديره و اثبت المدين انه كان فادحاً بموجب الفقرة (2) من المادة (170) من القانون المدني العراقي.
لماذا القضاء لم يمارس صلاحيته في تخفيض مقدار الشرط الجزائي و البالغ 600 مليون دولار في عقد شركة بوابة عشتار بالوقت الذي يسمح القانون بذلك؟ هناك فلسفة تقليدية تقول ان “العقد شريعة المتعاقدين” و لا يحق للقاضي التدخل في بنود العقد و شروطه لانه سيقوم بفرض التزامات لم يرغب اطراف العقد الاتفاق عليها و العقد مؤسسة تتلاقى بها ارادة طرفيه فقط بكل حرية و لا يحق لاي احد التدخل في تنظيم هذه العلاقة او التحكم بها حتى و ان كان ذلك الشخص هو “القاضي” لانها علاقة خاصة ما بين طرفين و مقتصرة عليهما و يقتصر دور القاضي الحكم وفق بنود العقد الذي يعبر عن الارادة المشتركة لطرفيه , لان السماح للقاضي بالتدخل في العقد معناه فرض شخص خارج نطاق العقد و هذا خلاف حرية الارادة التي تقضي بحرية الافراد في تنظيم شؤونهم الخاصة بالوجه الذي يشاؤون, التي هي احد مبادئ العامة للقانون المدني.
الا هناك اتجاه فقهي حديث ظهر في فرنسا و المانيا تزعمه الفقيه القانوني الفرنسي الاستاذ الدكتور (جاك غستان Jacques Ghestin) استاذ القانون المدني بجامعة باريس يدعو الى التخلي عن هذه النظرة التقليدية لان العقد هو مؤسسة اجتماعية و ليست فردية بحتة لانه ينعقد في وسط المجتمع و ينعكس اثاره على المجتمع و خاصة اذا كان العقد احد اطرافه الدولة التي تتوسل بالعقد كطريقة لاشباع حاجات المجتمع , فالعقود الكبرى التي من خلالها تقوم الدولة بانشاء مشاريع ضخمة كانشاء محطات كهربائية ضخمة و فتح شبكة شوارع جديدة و مطارات فهذه العقود ابرمت لصالح المجتمع ممثلاً بالدولة , اضافة الى ان مراكز المتعاقدين قد تكون غير متساوية فيفرض طرفه القوي (القوي اقتصادياً – القوي معرفياً) شرطاً يتضمن ميزة فاحشة لنفسه مما يخل بمبدأ المساواة في العقد , و من هنا وجب تغيير مفهوم قاعدة “العقد شريعة المتعاقدين” الى مفهوم حديث فـ “العقد شريعة المتعاقدين” بما يحويه من شروط عادلة و منفعة متبادلة لا بما يحوي من ميزة فاحشة و شروط مجحفة لاحد اطرافه , فاذا لم يكن العقد “عادلاً” و “نافعاً” للطرفين فلا قدسية له و يكون مبرراً قوياً لتدخل القاضي في العقد لإعادة التوازن بين طرفي العقد من خلال فرض “العدالة العقدية” على الطرفين بعدما عجزوا عن ذلك. و يبدو ان المحكمة عندما حكمت بالشرط الجزائي الوارد في عقد الدفع الالكتروني بالدعوى (205/تجارية/2021) دون تخفيضه جاء حكمها مكرساً للاتجاه الفقهي القانوني التقليدي الذي يبعد القاضي عن العقد لانه شأن خاص و يحكم وفق ما جاء فيه دون النظر في مدى “عدالة العقد” و مدى تناسب و عدالة الشرط الجزائي المتفق عليه بين الاطراف. و ترك الاتجاه القانوني الحديث الذي تزعمه الفقيه القانوني الفرنسي (جاك غستان) الذي يقيم القوة الملزمة للعقد على عاملين (العدالة) و (المنفعة) و القاضي ملزم وفق هذا المبدأ التدخل في العقد معدلاً شروطه و التزاماته وفارضاً شروطاً و التزامات جديدة لم تنصرف ارادة المتعاقدين اليها لإعادة احياء العقد في المجتمع مزدهراً بالعدالة و يحقق المنفعة المتبادلة. فلا تنفرد ارادة اطراف العقد بتنظيم بنوده و انما يتدخل القانون لفرض العدالة العقدية ليكون العقد مؤسسة اجتماعية عادلة.
و المال العام وفق الفلسفة القانونية العامة هو الطرف الضعيف في اي عقد يبرم و يلتزم القاضي بالدفاع عنه و يقرر القانون بطلان العقد اذا ما تضمن “غَبِنْ” اي “عدم التعادل بين ما يعطيه المتعاقد و ما يأخذ” اذا ما كان المال العام هو المغبون من هذا العقد , و الحكمة من ذلك التشدد بالحكم هو ان المال العام لا يستطيع الدفاع عن نفسه في العقود التي تبرم لمصلحته فيطمع الطامعون عادة.و هذا الحكم المتشدد من قبل القانون المدني يدعو القاضي الناظر في الدعوى التي يكون احد اطرافه “مال عام” ان يستحضر الفلسفة القانونية القاضية بان لا يقف على الحياد و ان يقيم “العدالة العقدية” و ان لا يستسلم لبنوده المجحفة التي تنال من المال العام .
يبقى سؤال واحد.هل سلطة القاضي في تخفيض قيمة الشرط الجزائي هي سلطة جوازية ام وجوبية؟ بمعنى ان القاضي يملك الحرية المطلقة في تقييم الشرط الجزائي من حيث مدى فداحته؟ نصت الفقرة (2) من المادة (170) على انه: (... و يجوز تخفيضه اذا ثبت المدين ان التقدير كان فادحاً او ان الالتزام الاصلي قد نفذ في جزء منه و يقع باطلاً كل اتفاق يخالف احكام هذه الفقرة). اي ان هذه الفقرة منعت اي اتفاق بين الطرفين يقضي بعدم جواز تخفيضه, مما يعني ان مبدأ “عدالة الشرط الجزائي “ هو من النظام العام و يحقق المصلحة العامة و اي نص قانوني من النظام العام انما هو نصٌ آمر لا يجوز مخالفته , و اعتبرت الفقرة (2) من المادة (130) من القانون المدني العراقي ان الاحكام المتعلقة بالمال العام هي من “النظام العام” , و بما ان العقد احد اطرافه “مال عام” و ان الشرط الجزائي المقرر ضد المال العام هو غير عادل في قيمته , و اذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة ترجح المصلحة العامة التي تحقق النظام العام فيكون الحكم بتخفيض قيمة الشرط الجزائي المغالى في تقديره هي سلطة غير جوازية و انما هي وجوبية و على المحكمة ان تخفض قيمته من تلقاء نفسها بعدما تطلب من المدين اثبات فداحته, لا هناك تعارض بين السلطة الجوازية بسبب ورود كلمة “يجوز” و بين نهاية الفقرة في اعتباره مبدأ “تخفيض الشرط الجزائي غير العادل” من النظام العام و نص الفقرة (2) من المادة (130) من القانون المدني التي وضعت مبدأ عام “احكام التصرف بالمال العام من النظام العام” و بسبب هذا التعارض الظاهري يغلب “النظام العام” على غيره فتكون سلطة القاضي بتخفيض الشرط الجزائي هي سلطة وجوبية تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها.و تكلف المدين (المصرف) بإثبات فداحة التقدير من خلال طلب انتداب خبراء ماليين و محاسبيين لتقدير قيمة الضرر الفعلي الذي لحق شركة بوابة عشتار مع قيمة الشرط الجزائي مع اخذ بالاعتبار الالتزامات المنفذة و الرجوع للاصل العام في ان يتولى القضاء تقدير الضرر و ليس ادعاء احد الاطراف.
أقرأ ايضاً
- دور الذكاء الاصطناعي في إجراءات التحقيق الجزائي
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري