- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة ؟ - الجزء الحادي عشر
بقلم: د. حسن الجنابي - وزير الموارد المائية الأسبق وسفير العراق الاسبق لدى اليابان وتركيا
قبل سقوطه في مستنقع المغامرة والهزيمة، وأثناء ورطته الحربية مع إيران، تبرع صدام حسين بمساحات حدودية كانت تسمى «محايدة» على الحدود بين العراق وجيرانه، وهي مساحات محددة وموضحة على جميع الخرائط الجغرافية المتداولة حتى لحظة التنازل عنها.
كان صدام يأمل من ذلك التنازل تأمين دعم «الأشقاء» العرب في معركة إستعادة نصف شط العرب، الذي سبق أن تنازل عنه أيضاً في صفقة لم يكن قادراً على التنصل منها.
فقد كان صدام حسين ينظر «ايديولوجياً» الى الأشقاء العرب جميعاً باعتبارهمً ابناء هذه الأمة التي كان يحلم بقيادتها ولا تفرقهم الكيلومترات «المحايدة» المعدودة التي تظهر على الخرائط. مع ذلك فإن «تنّين» الشر الكامن في التسلط والاستبداد لم يعمل لديه في موضوع الكويت بنفس الطريقة الناعمة المداهِنة مع الآخرين، بل بطريقة الضم لكامل التراب الوطني الكويتي، وخلق أحقاد وخصومات مجتمعية، والغاء كيان دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وما شاكل ذلك من منظمات دولية واقليمية.
وهكذا تغيرت الخرائط مجدداً ولكن هذه المرة ليس وفق رؤية صدام حسين الحالمة، بل على العكس تماماً، إثر هزيمته وتوريطه بالتوقيع على كل ما يكبّل البلاد، وينتقص من سيادتها في سلسلة قرارات متتالية لمجلس الأمن الدولي. لم يشهد المجتمع الدولي مثيلاً لتلك القرارات لا في العدد ولا في القسوة، ولا في حجم القضم الفاقع في السيادة واستباحتها أمام المفتشين والجواسيس، او في تطبيق عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على دولة عضو.
لقد قُضمتْ من الأراض العراقية مساحاتٍ شاسعة، وتضاءلت الى حد التلاشي الإطلالة البحرية للعراق الى حد يقترب بها أن يكون بلداً غير ساحلي (Land-locked country) بكل ما يعنيه ذلك من ضعف وهشاشة. هذا فضلاً عن تآكل الضفة الغربية لشط العرب وزحف المجرى العميق غرباً مع الوقت وخسران العراق لأراضٍ لصالح إيران، بما فيها ميناء العمية العراقي.
وفي ظل الأوضاع الراهنة وميزان القوى المختل حالياً بين العراق وإيران، وحجم النفوذ الإيراني في العراق وتأثيره على النخب والشخصيات الحاكمة منذ 2003 يبدو ان استعادة السيادة العراقية كما كان عليه الأمر قبل عام 1975 او حتى بعدها أمر فائق التعقيد والصعوبة إن لم يكن مستحيلاً، وسيبقى الموضوع مصدراً للقلق الدائم.
تبنّى مجلس الأمن الدولي، ومن الساعات الأولى لغزو الكويت، سلسلة من القرارات التي كبّلت العراق بقيود هائلة لم يسبق لأية دولة مارقة ان واجهت جزءً يسيراً منها. فمنذ يوم الغزو أصدر مجلس الأمن قراره المرقم (660) القاضي بإدانة الغزو والدعوة الى الإنسحاب الفوري من الكويت، ثم توالت عشرات القرارات الأخرى التي زاد عددها على الخمسين قراراً أصبح العراق بها فاقداً للسيادة، وجعلت العراق والأوضاع المحيطة به أكثر المواضيع تداولاً في أروقة مجلس الأمن على مدى سنوات.
صدرت إلى جانب القرار (660) قرارات أخرى تضمنت فرض الحصار الاقتصادي ومنع التعامل التجاري مع العراق (القرار 661 في 1990) والقرار الأخطر في التاريخ السياسي الحديث وهو إجازة استخدام القوة ضد دولة عضو هي العراق (القرار 678 في 1990)، وقرار النفط مقابل الغذاء (986 في 1995) بعد تفشي الفقر والموت وتلاشي قدرة الحكومة على توفير الحد الأدنى من الغذاء للمواطنين، وقرار(687 عام 1991) الخاص بترسيم الحدود مع الكويت والكشف عن أسلحة الدمار الشامل وتدميرها، وهو القرار الذي تشكلت في ضوئه اللجنة الخاصة للأمم المتحدة (UNSCOM)، وقرار ارسال لجان التفتيش الدولية (1284 عام 1999) وغيرها.
كانت أغلب قرارات مجلس الأمن الدولي ضد العراق في منتهى الخطورة على كيان الدولة العراقية. ولم يدرك صدام حسين خطورتها إلا بعد ان تآكلت سلطته وشارف العراق على الإنهيار، وربما لم يدرك ذلك أبداً في الحقيقة حتى لحظة اعتقاله المهين. لقد تآكلت سلطته وخطره على الدول المجاورة، لكن قدرته على القمع الداخلي والإستبداد بقيت، وكان يذهب بها الى أقصى مدياتها، باستثناء مناطق حظر الطيران شمال خط العرض 36، الذي وفّر منطقة آمنة نسبياً من البطش والقتل والتهجير، وكان ذلك إجراءً أمريكياً وبريطانياً وليس أممياً.
ما يثير الإستغراب هو موقف صدام حسين من قرار (678 لسنة 1990). فهذ القرار المخيف صدر في يوم 29 تشرين الثاني 1990، ومنح العراق فرصة زمنية طويلة جداً بكل المقاييس للإلتزام بقرارات مجلس الأمن بلغت (45) يوماً. منح القرار شرعية غير مسبوقة لإستخدام القوة ضد دولة عضو، وهي شرعية دولية كانت الإدارة الأمريكية تسعى لها بكل طاقاتها في ظل إعتراضات أمريكية داخلية كبيرة ضد الإنزلاق الى الحرب، بسبب عقدة الحرب الفيتنامية. وفي الوقت الذي وفّر فيه القرار للإدارة الأمريكية وقتاً “للإسترخاء” من الضغوطات واتهامات اللا شرعية، وذلك بوقوف مجلس الأمن الدولي الى جانب استخدام القوة، فهو قد وفّر أيضاً وقتاً إضافياً لتدقيق خطط شن الحرب وتأمين عدم الإنزلاق الأمريكي الى “فيتنام” أخرى، بل وتجنب الخسائر البشرية كذلك.
المستغرب هو أن القيادة العراقية كان لديها من الوقت ما يكفي للإنسحاب وتجنيب العراق مأساة الحرب لكنها أهملت ذلك. وكانت لديها فرص عديدة أخرى لتغيير الوضع بما يمنع الحرب، على الأقل بالطريقة الوحشية التي جرت بها، ومنها فرصة زيارة الأمين العام للأمم المتحدة خافير بيريز دي كويلار قبل يوم واحد من نهاية نفاذ التهديد الدولي للعراق. وقد أشيع حينها بأنه عومل بطريقة غير لائقة في بغداد، بل واتهمته حكومة صدام ومؤيدوها بأنه جاء ليمنح “شرعية” للهجوم على العراق. كذلك إعلان جورج بوش إرسال وزير خارجيته جيمس بيكر الى بغداد أو استقبال طارق عزيز في مكتبه، وما شاكل ذلك من مبادرات ضاعت بسبب تعنت صدام حسين.
تعرض مذكرات وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر في الجزء الذي تناول فيه الأوضاع قبيل الحرب ولقائه مع طارق عزيز في جنيف، الكيفية التي طرح بها طارق عزيز موقف العراق من الحرب المحتملة، واللامبالاة إزائها. فقد كان عزيز يتصورها أقرب الى “نزهة” محتملة للقوات الأمريكية وليست لشنّ حربٍ مدمرة. وربما كانت القيادة العراقية تفسر المعارضة الأمريكية الداخلية لشن الحرب لصالحها، في قراءة خاطئة لنظام الحكم الأمريكي والأنظمة الغربية عموماً. ومن السخرية أن الحكومة العراقية التي لا تقيم وزناً للرأي العام الداخلي ولا الدولي، راهنت على الرأي العام الأمريكي ان يوقف الحرب وأن يؤدي ذلك بالنتيجة الى تفكك التحالف الدولي ضد العراق ويخرج العراق منتصراً في المواجهة !
*أجزاء من كتاب عن وزارة الخارجية سينشر قريباً
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟