د. ليث مزاحم خضير
لم يكد المُجتمع الدولي يتنفس الصُعداء جُزئيّاً بعد أن أُرهِقت أنظمته الصحيّة تحت ضواغط الوباء العالمي الأوّل في العصر الرقمي، حتّى أُسقِط في يده الأسوأ: ثمّة المزيد من هذا الرعُب الفيروسي؛ فأشباه الكائنات المُتناهية الصِغر هذه تختزن قُدرة فريدة على التلّون والتحوّر والخِداع، وتنجح دائماً –كما نرى- في تخطّي دفاعاتنا ومتاريسنا التي لم تعد سُرعة تشييدها قادرةً على مُجاراة المواظبة الغريبة للفايروس المُتقلّب على التغيّر والتطوُّر.
حتّى أنَّ ارتباك العلم أمام طفراته المُفاجئة قد تسبّب في استشراء غير معهود لنظريّات المؤامرة التي يُغذّيها خيالٌ شعبي خصب أتعبه الإغلاق والحجر والقُيود والتغوُّل المُخيف للمؤسّسات الصحيّة والتآكُل المُستمر للحُريّات تحت طائل المصلحة العامّة، ولو توقّفت عواقب مُتحوِّرات (كورونا) ونُسخها الكثيرة عند البُعد الوقائي لكان في الأمر سِعة، نظراً لأنَّ نظام التشابُك الإنساني الذي ندعوه بالعولمة، والذي نُعوِّل عليه كثيراً -برغم تحفُّظاتنا على بعض جُزئيّاته وآليّاته-، قد أخذ بالترنُّح أمام هذا الخطر الوُجودي الماحق.
(أوميكرون) يُعيدنا –بتحوُّرٍ لم يُكلِّفه الكثير من مادّته الحيويّة- إلى نُقطة الصفر التي انطلقنا منها قبل عامين بالضبط، يوم تشوّش العالم برمَّته وهو ينكمش مُرغماً على ذاته ويُغلق حدوده ويُسرِّح عُمّاله ويغرق في تقشُّفٍ طويل وانتظارٍ مُمل، وبينما تضجّر الإنسان لشهور طويلة من رحلة زحفه البطيئة نحو بصيص أمل أخذ يزداد تدريجيّاً مع كُل لُقاحٍ تُنتجه شركات الأدويّة الرأسماليّة المُتناحرة، كان (أوميكرون) قابعاً –بلا اسم- هُناك بصمتٍ في القارّة المنسيّة من ضمير العدالة الأخلاقيّة العالميّة، يتقافز من كائن بشري إلى آخر، وينسج خيوط أُسطورته البيولوجيّة برسم الانبعاث الجديد المُحكم هذه المرّة بعشرات الطفرات العصيّة على الفهم، والمنيعة ضدِّ التطعيم، والخبيثة التحوُّر، وليُحيل بمزاجيّة نرجسيّة كُلَّ ما جهدنا في صُنعه لدرء خطر الاجتياح الفيروسي إلى رُكام.
(أوميكرون) تذكيرٌ مُرٌّ بعدالتنا الإنسانيّة المنقوصة التي تستثني دائماً من هُم الأضعف، لأنّنا لو توخّينا شيئاً من المُساواة والإنصاف في توزيع المنافع عالميّاً لما أهملنا الخزّان البشري الأفريقي الذي كان تاريخيّاً –شأنه شأن الخزان الصيني- مسرحاً لتهجين شتـى أنواع الظُلم والتمييز، وشتّـى أنواع الأمراض والأوبئة، ولما انتظرنا هذا اليوم الذي سنُعيد فيه التفكير في جدوى عالمنا المُعولم المُترابط بكثافة، إنَّ القارّة السمراء تردُّ إلينا –بطريقتها الخاصّة- شؤم كبريائنا وغُرورنا وجشعنا، وتصدمنا بحقيقة أنّنا–كنوعٍ إنساني- قد فشلنا في خلق آليّاتٍ عادلة لإدارة أزمة وُجوديّة نحن جميعاً مُشاركون فيها، وضحايا مُحتملين لنتائجها الوخيمة، سواءٌ تعلّق الأمر بذواتنا الحاليّة، أو بأجيالنا المُستقبليّة التي ستلعننا إن فشلنا في خلق تنمية صحيّة مُستدامة واستثمارٍ طبّي مُنصف يضع نُصب عينيه النوع الإنساني لا جُغرافيّة الانقسام السياسي أو التركيبة العُنصريّة الموروثة من بقايا العقليّة الكولونياليّة.
فالخطر الداهم الذي نراه في هذه اللحظة الفاصلة (الأوميكرونيّة) وما بعدها هو خطرٌ يُجبرنا على أن نُحدث (طفرةً) مُماثلة –أو حتّى طفرات- في منظورنا البشري ومنهجنا الإنساني، وأن نرتقي في رغبة التعايُش عبر مُصالحةٍ جادّة مع ذواتنا، قبل أن نُقرِّر التعايش مع أشباه الكائنات هذه (الفايروسات) في عالمٍ تُهدِّده الأخطار المُتزايدة.
أقرأ ايضاً
- أوميكرون .. كما يتفقد القاتل مسرح الجريمة
- التحذير من إنهيار المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي في خطب المرجعية الدينية العليا
- رياضة الكيك بوكس: علاج لإنحراف الشباب الخُلقي والأخلاقي