بقلم: محمد شياع السوداني
شرع قانون الموازنة المالية الاتحادية لعام ٢٠٢١ في ظروف غاية في التعقيد منها اقتصادية حيث انخفاض اسعار النفط وجائحة كورونا مما دفع الحكومة الى طرح ورقة اصلاحات سميت ب(الورقة البيضاء) ورافق هذه الظروف تهديد عن قرب افلاس العراق والخطر الذي يحيط بسمعة العراق المالية عالميا والضرورة القصوى الى رفع سعر صرف الدولار واحتدام النقاشات بين أطراف متعددة ووعود بدعم القطاعات المنتجة، الامر الذي جعل الجميع يعيش حالة قلق غير معهودة لما سوف تؤول له الأمور .
وبعد سجال طويل تم التصويت على قانون الموازنة المالية الاتحادية في ٢٠٢١/٣/٣١ بمبلغ (١٢٩) ترليون دينار (٨٨ مليار دولار) وبعجز (٢٨) ترليون دينار (١٩ مليار دولار) منها موازنة تشغيلية بمبلغ يفوق (٩٨) ترليون دينار وموازنة استثمارية بمبلغ (٢٩) ترليون دينار، كان المواطن يعول عليها كثيرا في تحسين واقع الخدمات وخلق تنمية اقتصادية تساهم في خلق فرص عمل وسنركز في مقالنا على هذا الجانب من الموازنة العامة.
ان الموازنة الاستثمارية لسنة ٢٠٢١ تبلغ (٢٩) ترليون دينار ولغاية ٢٠٢١/٨/٣١ وفي أحدث موقف رسمي لوزارة المالية / دائرة المحاسبة تم صرف ١.٦ ترليون أي ما يشكل ٦% فقط من اجمالي التخصيص وها نحن في الشهر ما قبل الأخير من السنة ولو فرضنا ان معدل الانفاق استمر على نفس وتيرة الثمانية أشهر الأولى فإن نسبة الصرف لن تتعدى الـ ٨% دون ان يكون لها تأثير ملموس على التنمية الاقتصادية ولم تخلق فرص عمل كبيرة وحتى لو فرضنا انه تم صرف كامل التخصيص فإننا نتساءل هل يكون له أثر حقيقي يغير الواقع الاقتصادي السيئ في العراق رغم ضخامة المبلغ؟ وخصوصا إذا عرف القارئ بأن نفس هذا المبلغ (٢٩) ترليون دينار تم صرفه في كوريا الجنوبية وقام بانتشال الاقتصاد الكوري من الازمة المالية التي عصفت بالعالم عام ٢٠٠٨ وأدى الى تعافي الاقتصاد في فترة قياسية والعودة الى النمو الاقتصادي، بل وزاد من الحافة التنافسية للاقتصاد الكوري.
لقد اثبتت جميع الموازنات الاستثمارية فشلها في تحقيق ابسط المنجزات الاقتصادية والخدمية وذلك لعدم وجود رؤية واقعية وضعف قدرة الحكومات المتعاقبة على صرف هذه الموازنات الاستثمارية الضخمة في مسارات التنمية الاقتصادية المستدامة الصحيحة حيث تم صرف التخصيصات على مشاريع ليس لها مردودات اقتصادية او اجتماعية بل على العكس أصبحت هذه المشاريع عبئا اقتصاديا يضاف الى الأعباء الكبيرة الأخرى التي تثقل الاقتصاد العراقي وبابا واسعا من أبواب الفساد المدمر، ورغم كل هذا يتكرر نفس سيناريو الموازنة الاستثمارية مع كل قانون موازنة جديدة دون ان يتم تقييم فائدة وقيمة مشروع الموازنة الذي سبقه. ولو تم جمع مبالغ الموازنات الاستثمارية في العراق لسبعة عشر عاما مضت فإنه يكون واحدا من أكبر دول العالم الثالث في حجم الموازنات الاستثمارية المخصصة للتنمية الاقتصادية ومع ذلك لايزال من الدول الأخيرة في المؤشرات الاقتصادية والتنموية والمجتمعية.
لذلك يتوجب علينا طرح فكر جديد وآليات تنفيذ تؤدي الى الاستفادة القصوى من مبالغ اقل من الموازنات الاستثمارية لإحداث تنمية اقتصادية مستدامة بمردود مجتمعي عالٍ جدا وهو ماقمنا به عندما تبنينا برنامج (الاقتصاد الشاب) حيث تم تخصيص مردود (٥٠) يوما انتاج فقط (بحدود ٧،٥ مليار دولار على فرض سعر البرميل ٥٠ دولارا) لتمويل مشاريع محورية كبيرة وتطوير رأس المال البشري وإعادة بناء شريحة صغار ومتوسطي المستثمرين والصناعيين والمزارعين وخلق بيئة استثمارية جاذبة لتقلص الأدوار التي تلعبها الحكومة وإتاحة الفرصة الأكبر للقطاع الخاص للتنفيذ.
وكنموذج على فعالية فكر (الاقتصاد الشاب) فإن المبالغ المستثمرة في أربعة مشاريع تبلغ مايقارب (٥) ترليونات دينار فقط وهي مشروع (أجّر وتملك) ومشروع (ولّد كهرباءك) ومشروع (الاقتصاد الرقمي) ومشروع (مليون دونم) تخلق أكثر من مليون فرصة عمل وتوفر سكنا لحوالي 1.5 مليون مواطن، هذه المشاريع ستساهم في جذب استثمارات إضافية من احجام مختلفة تصل الى (١٠) ترليونات دينار وتشغل عشرات المصانع وتستوفي مبالغ كبيرة لصالح الضمان الاجتماعي.
بالنتيجة امام المعطيات التي افرزتها مواقف الصرف وتنفيذ الموازنات الاستثمارية لهذا العام والاعوام السابقة والازمات الخدمية المستمرة من سكن ومدارس ومستشفيات وكهرباء لم يعد ممكنا الاستمرار بالعمل بفكر الستينيات من القرن الماضي فقد اثبتت الحكومات عجزا مزمنا على الاستثمار لتحقيق التنمية الاقتصادية والمجتمعية ونحن نجزم أنه حتى لو تم مضاعفة التخصيصات فإن المواطن لن يلمس شيئا يذكر مادمنا بنفس سياقات العمل والفكر المتوارث في ظل جهاز اداري مترهل يشوبه الفساد والمحاصصة التي انتجت ادوات عمل فاسدة وغير منتجة.